حين تناجي أم درمان “غزة” وتنسى جوع الفاشر
الزين عثمان – أفق جديد
علف للحياة
من الفاشر يخبرونكم عن نقص أرواحهم مرة بالتدوين وثانية بالجوع وثالثة بالأمراض.
يرتفع صوتهم بالشكوى “الناس يقتاتون من علف الحيوانات”، ثم يكملون الآن حتى كوتة “العلف” انتهت لا شيء يمكن طبخه في “التكايا”. قائمة الأسعار لا يمكن قراءتها من ضخامة “الأصفار”، كل الطرق نحو المدينة مغلقة، الحصار يطبق على من تبقي من الناس هناك.
لافتات لغزة.. وصمت اتجاه الفاشر
شارع آخر في أم درمان كان ينفتح أمام “مواكب” خرجت من المساجد ترفع أصوات تضامنها وتندد بالمجاعة، لكن في “غزة”، حيث يواجه أهل القطاع خطر الموت والتجويع .
مظاهرات التضامن مع “غزة” لم تكن في أم درمان وحدها وإنما خرجت في ولايات سودانية أخرى معيدة السؤال حول أولويات التضامن والمناصرة، وسؤال آخر هل ما يزال جسد السودان واحدًا إن شكى منه عضو تداعى له بقية الجسد بالسهر والحمى؟
نحن أولى بالتضامن
من الفاشر الغارقة في نيرانها يخرج صوت تنسيقيات لجان المقاومة “منتقداً” ما وصفه بازدواجية المعايير في التعاطف الشعبي، على خلفية خروج التظاهرات المتضامنة مع “غزة” دون الإشارة لما يحدث في مدن السودان، في كادوقلي والأبيض في النهود وفي الدلنج، ودون استدعاء لمعاناة المدنيين السودانيين في مناطق النزاع.
في بيانها اعتبرت تنسيقيات لجان مقاومة الفاشر التضامن مع غزة واجب أخلاقي لا جدال فيه، لكن ما يؤسف له أن يتحول هذا التضامن لحالة تشبه الانفصال عن الواقع، وهو ما يطرح التساؤل حول تجاهل المآسي اليومية في الفاشر وغيرها من المدن السودانية التي ترزح تحت ويلات الحرب.
وجاء في البيان “وقفنا مستغربين أمام تلك الحشود الغاضبة لما يجري في غزة دون أن نجد لافتة واحدة تشير لآلام السودانيين، فكيف نفسر هذا الغياب، أليس التجاهل شكل من أشكال الإنكار؟”. ووصفت التنسيقية هذا التجاهل بأنه فصل غير مفهوم بين الضمير الإنساني وما يجري أمام الأعين في الداخل، وطالبت بأن يكون التضامن صادقاً وشاملاً، وأن لا يكون مدفوع بلحظة عاطفية ومتواطئاً بالصمت أمام الانتهاكات داخل الوطن .
وأكمل البيان “الوقوف مع غزة لا يعفي أحدًا من مسؤوليته تجاه الضحايا في الوطن. نرفض أن نكون شهود زور على مجازر الداخل والخارج على حد سواء”.
انفصال عن الواقع
الفاشر المنسية وإخواتها في تظاهرات التضامن سرعان ما تعيد الجدل حول طبيعة العلاقة بين المكونات السودانية، على ذات صيغة السؤال القديم ما الذي يجعل ضحايا غزة أولى بالتضامن من ضحايا الفاشر وكادوقلي؟ وهو السؤال الذي يستبطن في داخله صراع “الهوية” المتجدد حول عروبة السودان وأفريقنيته، مقروناً ذلك في العجز عن بناء هوية سودانية تتجاوز جدلية الصراع.
تظاهرات الإسلاميين
بالنسبة للكثيرين فإن ما حدث من تظاهرات بمثابة إعادة لذات السيناريوهات القديمة، يموت الناس في السودان وتخرج التظاهرات داعمة لفلسطين ولغيرها من مكونات. وهي المشاهد التي يحملها البعض وزر ذهاب الجنوب منفصلاً في آخر المطاف.
بالنسبة للبعض فإن المسيرات التي خرجت في مدن السودان تضامناً مع “غزة” مثلت امتدادًا لهذا السلوك القافز على الحقائق، وبالطبع تجاوزت الواقع المحلي في بلاد تعيش حربها الخاصة منذ أكثر من عامين.
لكن الأمر لم يكن مثيراً للدهشة عند الكثيرين حين رؤيتهم من حشد وسير مسيرات دعم “غزة” من المحسوبين على التيار الإسلامي الذي أسقطت ثورة ديسمبر مشروعه بالسلمية قبل أن يعود للمشهد محمولاً على البندقية، “المفارقة” أن من قاد مسيرة دعم اهل غزة ضد الحصار هو من تسبب في حصار أهل الفاشر حين حشد لحرب العبث السودانية، حيث يتبادل الكثيرون صورة للقيادي في “البراءون” أويس غانم العائد لتوه من رحلة نقاهة من “تركيا”، ما ينطبق على غانم ينطبق على كثيرين من قيادات التيار الإسلامي الذين يعيشون في غربة مشروعهم الخاص على حساب قضايا السودانيين واستقرارهم.
غزة باللسان والفاشر بالسلاح
الأمر المثير للاستغراب لدى الكثيرين، أن من خرجوا داعمين لحق أهل غزة في الحياة يدعمون في المقابل حق “البرهان” في السلطة، وإن كان ذلك عبر الاستمرار في الحرب، وهو ذات الجنرال الذي وضع سودان دعم القضية الفلسطينية في نادي “التطبيع” مع الكيان الذي يحاصر أهل غزة ويجوعهم الآن.
في دفاعهم عن مسيرات التضامن مع “غزة” قال الإسلاميون إنهم يدعمون غزة بلسانهم، بينما يدعمون الفاشر وغيرها من المدن السودانية بيدهم التي تحمل السلاح من أجل التحرير، لكن قبل أن يجف حبر حديثهم جاء زعيم البراءون بقول مغاير حين أعلن عزمهم على وضع السلاح والعمل في سياق الدعم المدني ما فرض السؤال وماذا عن تحرير الفاشر؟
في الوقت الذي كان يحمل فيه أحدهم لافتة في شارع الوادي بأم درمان مكتوب عليها “لا للتجويع” في غزة، كانت الأخبار القادمة من تكايا الفاشر تتحدث عن إنجازها لوجبة أخيرة للمحاصرين تم فيها استخدام “العلف” الحيواني، من أنجزوا هذا العمل ختموا رسالتهم بأن هذا آخر ما تبقى من علف، وأن الغد يبشر بالمزيد من المعاناة، حيث وصل سعر جوال الدخن في المدينة لأكثر من 4 ملايين جنيه، وكشفت الأرقام عن وفاة 4 أطفال أسبوعياً في معسكر أبو شوك بسبب سوء التغذية، هذا مع نفاد السلع في الأسواق وبالطبع الخدمات الصحية.
الموت جوعًا
الفاشر المحاصرة قبل 5 شهور من الحرب التي اندلعت في غزة يعيش أهلها واقعاً لا يمكن وصفه، وتعرضت لما يزيد عن 220 هجومًا من قبل قوات الدعم السريع بغية السيطرة عليها باعتبارها آخر النقاط الحاكمة في إقليم دارفور، وفي وقت سابق طالبت قيادات الفرقة العسكرية من المواطنين عدم إشعال الضوء في ليل المدينة حفاظاً على أرواحهم من القصف.
لكن من قال إن الرصاص وحده ما يقتل الناس، هناك الجوع أيضاً، الأمراض مع غياب الدواء، البطون الجائعة، الصرخات المكتومة التي تهزم أصحابها من الصياح بصوت يسمعه الناس “نحن أولى بالتضامن من الآخرين”، ونحن أقرب إليكم والموت جوعاً أقرب إلينا من حبل الوريد .