طه سليمان.. العودة بالصوت والصورة: ويستمر الرهان

 

صداح عبيد خوجلي

 طه.. العودة

قبل سنوات طويلة راهنت على حالة جيل إبداعي كامل يتلمس طريقه بالظهور. راهنت على نجاحه وطلبت تشجيعهم لا السخرية والتقليل مما يحاولون تقديمه. كتبت عن طه سليمان وجيله ما نشر في صحيفة الخرطوم القاهرية (22 أغسطس 2007) حينها. اخترت طه سليمان لأنه كان نموذجًا أحدث شيئًا مختلفًا حينها، وقوبل عمله – و يا الغرابة – بنفس ضجيج الحفل القاهري منتصف هذا الشهر.

كان ما يعنيه عنوان ما كتبته أن دعوا هذا الجيل يعيش اقتباسًا من كليب/أنا عايز أعيش/ (طه سليمان/د. الجبالي)، طه الذي كان يدرك في بداية طريقه أن الإنتاج والصناعة جزء مهم لإبراز الإبداع، وكل شأن يعلو باجتهاد صاحبه وإيمانه بالموهبة أولًا، والجرأة والشخصية والابتكار وعناصر أخرى لاحقًا.

كان كليب (عايز أعيش) صرخة مدوية وبيان قدرة رؤية فنان سوداني على الصمود والإطلالة على العالم بشكل جيد جدًا. حينها كان الهرم وردي – مثلًا – قد أكمل سنوات بالقاهرة دون نشر أعمال مرضية بالكم والنوع عبر الفضائيات حديثة الظهور! وتلك قصة نعلم أننا كسودانيين مصابين بشيء عظيم في الاعتزاز بهويتنا والتعبير عن جماليات أعمالنا الإبداعية وخلطة من أنفة وكسل. نكاد لا نذكر أعمالًا سوى القليل منها (على قدر الشوق/الموصلي) (بتقولي لا/ عبد العزيز المبارك) فيما برزت تجارب (جواهر) وسيطرت !!

  حفل عصري وإخراج مميز

بعد سنوات من حرب لئيمة اعتلى طه المسرح ليقابل جمهوره الذي غاب عنه. خارج الديار وداخل الشعور بها، وبدا في كل لحظات الحفل سعيدًا ومحتفيًا بالحضور الذي بادله شعورًا بشعور وانتشاء بفرح طاغٍ.

على مسرح يضاهي ما نراه في المحافل العالمية، وبفرقة موسيقية متجانسة، وكورال واستعراض منمق، قدم طه وطاقمه حفلًا وصف بالأسطوري. وربما الوصف أتى من مقارنة الحفل بالاستسهال المقارب للاستهبال الذي يقابل به بعض المغنيين والمغنيات جمهورهم، فيما تتولى جوقة إعلامية ومجتمعية التصفيق والاحتفاء المقابل لاحقًا. يستفيد طه سليمان وطاقمه من أدوات العصر المتاحة لتقديم الأعمال بشكل عصري قادر على الصمود والمنافسة.

بحضور فوق المتوسط (حسب مقاعد وشواغر المكان) تم تقديم ما يقارب الـ 17 عملًا مختلفًا. أحد الأعمال تم تقديمه لأول مرة على المسرح (سوداني كياني)، وهو آخر عمل تم تنفيذه كفيديو كليب، وجزء من عمل جديد لم ير النور أو ينشر اختتم به الحفل.

 مشوار غنائي وجمهور وفي

الأعمال التي تم تقديمها جميعها خاصة بطه سليمان، عدا اثنتين من الأغاني المسموعة للرواد. (أنا السودان جمال إشراق) رائعة حنان النيل. و(بقيت تمر بينا) للنور الجيلاني.

 ومشوار طه سليمان الفني تميز بتقديم أعمال خاصة تفاوتت شعبيتها، وملاحظ الاهتمام الفائق بالعناصر الثلاثة للأغنية الناجحة.  أداء/كلمات/ألحان. والرابطة بين طه وجمهوره واضح أنها عظيمة. فيشاركهم الغناء والعكس، والكل (مبسوط). الإيقاعات مختلفة ومتنوعة مع تميز إيقاعي الريقي والسامبا. وكحال معظم مجايليه – طه – غابت آلة الكمان عن الفرقة الموسيقية.

الشركة المنظمة والإعلامية بذلت جهدًا ملموسًا. أكبر العيوب كان عدم تقيد البرنامج بالزمن المعلن بالتذكرة والإعلان. انتظر الأغلبية ٣ ساعات وأكثر ليبدأ الحفل، وأن اعتبرنا فقرة الـ DJ رئيسية أيضًا فقد عانى بعض الحضور في مناطق لا مقعد أو ظل فيها (الدرجة الثالثة).  فئات التذاكر فوق الوسط مقارنة بالمنصرف اليومي للأغلبية. كنت أتوقع الإعلان عن ذهاب جزء من ريعها لتكايا الأحياء داخل مدن السودان، ولكن لا أعلم شيئًا عن الأمر (مجرد أمنية).

المسرح مجهز بشكل ممتاز. الصوت والإخراج غاية في الاتقان. لم أحظ بحضور حفل جماهيري منذ سنوات وقد تغير الكثير. تكاد تمسك اللهفة والفرح من أجواء الحفل وذلك من خلال تفاعل الجمهور. بالإضافة للتجهيز الجيد يمكن رصد الملاحظات الإيجابية الآتية :

 أولًا :

الدقة الواضحة في التجهيز وأيضا الأداء. (كل حاجة في مكانها) ابتداءً من نقطة وقوف المؤدي الرئيسي لآخر نغمة صادرة في ختام كل عمل. الكورس، العازفين، الراقصين. كأفضل ما يكون.

 ثانيًا :

التفاعل كان فطريًا دون تكليف وساهم طه نفسه في دعم هذا بتقديمه اللائق لضيوف الحفل من زملاء ورفاق رحلته الإبداعية الموجودين في الحفل وخارجه. كل عمل تم تقديمه مع ذكر الشاعر والملحن سواء عبر المذيع/ة الداخلي/ة أو بصوت طه نفسه.  وهذه مسألة مهمة وتحمل احترامًا للعملية الإبداعية ككل. كما دعا مجاهد سيمت لاعتلاء المسرح والعزف مع الفرقة كتكريم للطرفين.

 ثالثًا :

أداء طه سليمان كان منضبطًا ومعتمدًا بالتأكيد على صوت صاف تميز به واستطاع أن يمر عبر طبقات مختلفة فيه أحيانا في عمل واحد. وعلمنا أن عدد البروفات كان كبيرًا قبل الحفل، التجهيز له لأكثر من شهر هذا دليل احترام للمتلقي واحتفاء بحضوره أيضًا.

 رابعًا :

وجود رعاة ومنظمين للحفل كجهات مسؤولة عن التجهيز والتمويل مسألة مهمة لتجويد العمل والإعلام عنه. واقتناع الفريق العامل خلف طه سليمان بهذا الأمر أحد أسباب نجاح الحفل وظهوره بشكل مشرف.

 ألسوع !!!

أثار الإعلان عن عمل غنائي لطه سليمان ينافس السوق المصري جدلًا كبيرًا، وأرى أن الإعلان سلبي والعمل نفسه أن رأى النور لن يضيف شيئًا للساحة، ربما بضع دولارات .

لنضبط مفهومًا أو مصطلحًا قبل الولوج للنقاش :

ذكر طه في تقديمه للعمل أنه بصدد التفكير بصوت عالي مع جمهوره (مفهوم إيجابي) لكن ما ذكره برأيي خالٍ من الإيجابية فيما معناه :

“أنا عايز أنافس في السوق المصري. السودان ضد مصر”.

وهنا يحضرني البوست الذي كتبه الأستاذ الطيب عبد الماجد، ورأيه في هذه النقطة التي أجدني في تمام التماهي معه.

مصطلح المنافسة في الفن لا (ضد) فيه.

السوق الغنائي المصري بحر زاخر بجواهره ودرره. ليس مطلوبًا من طه سليمان المنافسة فيه. وإن كان ثمة منافسة فليست برأيي على الشاكلة واللونية التي يمكن نطلق عليها (نمبر ون)، حتى الشارع المصري منقسم حول هذه اللونية التي ترك طه منيرها وعمرو ديابها والطرب والنغم والأشكال الغنائية التي يستطيع أن يتميز فيها لصالح غناء المهرجانات والرمضانيات. بدا لي أثناء تأدية العمل كالمغني المصري أحمد سعد. لا يمكن دخول سوق أصيل كالمصري بعمل مكرر. مشابه لآلاف مثله لمجرد أن صوتك ربما أجمل. الثقافة نفسها غير مرحب بها لكثير من (السميعة) في مصر إن اعتبرنا أن العمل انقيادًا لمفهوم (السوق عايز كده!). لا يغني الناس ليقولوا نحن الأفضل، وأنا الأول وغيري لا شيء، هذا ليس موضوعًا مهمًا في الفن ولا في الحياة.

نتفق أن التوجه للشباب والجيل مطلوب. وطه قدم كثيرًا وأثار الجدل لكن ظلت المفردة والمفهوم بمنظور محلي سوداني مهضوم ومقبول. لا مشكلة لنا مع سوداني كياني أو حتى تم تم. (ألسوع) عنوان العمل (ذات نفسه) كلمة ليست مطروقة لدينا.. 

كما يقال: المحلية تقود للعالم

الوصول للعالمية لا يعني اختيار السائد في إقليم وتبنيه. يمكن أن تقدم نفسك للعالم بنغم وشكل وإخراج سوداني وبأدوات عصرية حتى لو كانت استلهام استعراضات والموسيقى لغة عالمية.

غرب أفريقيا/جامايكا /مصر/ الجزائر/ جنوب إفريقيا معروفة موسيقاهم ومطربيهم للعالم. لم نكن نعرف معنى كلمة ديدي عند الشاب خالد لكن العالم يستطيع أن يترجم لك أغاني عائشة وتملي معاك وغيرها.

اللغة ليست عائقًا

الموسيقى ليست عائقًا .

 الشكل والإخراج ليسا عائقًا.

 العائق هو عدم الثقة في ثقافتك المحلية وقدرتها على الصمود.

أي توليفة تحمل إبداعًا في ذاتها قادرة على الصمود والوصول للعالم.

إن كان ثمة نصيحة لحريص على مشوار طه سليمان الجميل فهي بالدارجي: أرخي لينا حنك ألسوع وشبيهاتها دي شوية!

حبس المسرح أنفاسه عند الإعلان عن العمل، وبرأيي الامتعاض كان سائدًا في وجوه الحضور.

 ويستمر الرهان!

الجدل مطلوب. ونشكر هذه الفعاليات التي حركت الراكد. كان حفلًا راقيًا جميلًا وننتظر الأفضل عمومًا.  وأعتقد أن الساحة الفنية السودانية على امتداد الشتات الحالي كانت تتابع الحفل وإرهاصاته وعودة (السلطان) كما يحلو لمعجبيه لشغل الشاغر من قلوبهم . ودليل النجاح هو تباري الأقلام والميديا عمومًا في عكس الفعالية وجدلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى