من يضع الختم على القرار الأخير
البرهان والكيزان.. تلاوة سفر "الرؤيا"
عثمان فضل الله
في قلب الحرب التي لم تهدأ منذ أن دوّى رصاصها صبيحة ١٥ أبريل ٢٠٢٣، حيث تقاطع الدخان مع الخديعة، وتتشابكت المعارك مع المناورات في الخفاء، تدور اليوم معركة مختلفة، لا يسمع فيها أزيز الرصاص، ولا ترصدها الطائرات المسيّرة، لكنها أشد أثرًا، وأخطر وقعًا. إنها معركة على قمة المؤسسة العسكرية، بين رجل ظنّ أنه يقود الدولة نحو الخروج من أتون الحرب، ورغب أن يكتب التاريخ بنفسه، وبين تيار ظل يتحيّن اللحظة للانقضاض، لا لاستعادة ماضٍ فحسب، بل لإعادة هندسة الحاضر والمستقبل.
الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي حمل البندقية رافعًا راية الجيش بيد ثم حمل باليد الأخرى مفاتيح الحكم، ورؤية أبيه، وما ظن أن الرؤيا هي آخر سفر في الإنجيل، فالرجل بات اليوم يواجه تحديًا وجوديًا لا يأتيه من خارج أسوار القيادة، بل من بين الضباط الذين اعتقد يومًا أنهم ظله وسنده. وفي الطرف الآخر، تقف الحركة الإسلامية، متأهبة، لا بالبيانات ولا بالشعارات، بل بخطط ميدانية محكمة، وبشبكة ممتدة داخل المؤسسة العسكرية، تسعى لا لاقتسام السلطة، بل لإعادة السيطرة الكاملة عليها.
العطا في دائرة الضوء
في اللحظة التي أطلق فيها أحمد هارون، الرئيس المكلف للمؤتمر الوطني المحلول، تصريحه المدوّي عبر وكالة “رويترز”، بدا الأمر كما لو أنه يُعلن فتح البوابة نحو مرحلة جديدة، مرحلة لا تحتمل إلا خروج أحدهما، قالها ببساطة ظاهرها تحليل سياسي، وباطنها رسالة مُشفّرة مفادها “البرهان لن يكون قائد المرحلة المقبلة”، حملتها عبارته “سيتم اختيار ضابط يجري عليه استفتاء ليكون حاكمًا للفترة الانتقالية”.
لم يكن ذلك التصريح ارتجالًا، بل كان كما ترى مواقع إخبارية ودوائر داخلية، بمثابة الشيفرة التي حرّكت المياه الراكدة، وحددت بوضوح مصير العلاقة الـ”توكسيك” بلغة شباب هذه الأيام بين الجنرال والتنظيم.
الفريق ياسر العطا، الذي لطالما ظهر كرجل المرحلة الرمادية، بات اليوم الاسم الأكثر ترددًا في منشورات الإسلاميين، وصفحاتهم على “تلغرام” و”إكس” و”فيسبوك”، ومنشوراتهم المشفّرة التي تتحدث عن “القائد الذي لم يخن العهد”، و”الضابط الذي يفهم الرسالة”. لم يُصنّف العطا يومًا كعدو للحركة، ولم يُحسب عليها بالكامل، وهذا بالضبط ما يجعله الخيار المفضل، ذلك الذي يمكن تمريره دون أن يثير عاصفة، ويُلبس المشروع القديم قميصًا جديدًا.
أحد أبرز الحسابات المحسوبة على التيار، كتب منذ أيام: “العطا هو صمّام الأمان، لا نحمل عليه غلًّا ولا ملامة. هو ابن المؤسسة، وليس ابن الصفقات. هذا وقت الرجال لا وقت المجاملات”.
وفي منشور آخر في إحدى قنوات الواتساب التي يديرها إسلامي معروف، وهي شهيرة بمحتواها التعبوي، نُشر تعليق واضح: “قاتلنا لنُمهّد الطريق، ولن نقبل بأن يُهديه البرهان للعلمانيين على طبق تفاوض. من يعرف دهاليز الجيش يعرف أن العطا هو الرجل المناسب في الوقت المناسب”.
في مرمى الحساب
على الضفة الأخرى، يقف عبد الفتاح البرهان، محاطًا بجدران تبدو متماسكة في الظاهر، لكنها في العمق تُصغي إلى همس التغيير. لم يعد ذلك الجنرال الذي يُجمِع عليه الجميع، بل أصبح موضع تجاذب بين من يرونه خائنًا لتحالفات الأمس، وبين من يعتبرونه عثرة في طريق التسوية اليوم.
الحركة الإسلامية، التي قدّمت له الدعم اللوجستي والسياسي والميداني منذ اليوم الأول للحرب، ترى الآن أنه تخلى عنها، أو على الأقل، لم يمنحها ما اعتبرته استحقاقًا مشروعًا مقابل ذلك الدعم. لا يزال البرهان يقدّم إشارات للمدنيين، ويبحث عن موقع في المشهد الدولي، وهو ما تعتبره قيادات الإسلاميين لعبًا على الحبلين، لا ينم عن شراكة، بل عن براغماتية تُهدد كل ما بُنيَ خلال عام الحرب.
الأخطر من ذلك، أن البرهان بات يتحدث عن “جيش وطني” لا يحمل هوية سياسية، وعن مرحلة انتقالية تُبنى بالتوافق، لا بالتمكين. بالنسبة لخصومه من داخل صفوفه، هذه ليست مجرّد خطابات، بل مؤشرات على خيانة محتملة للترتيبات الخفية التي أبقت الجيش متماسكًا منذ الانقلاب في 2021.
الخطة تمشي على قدمين
بحسب ما رشح من مواقع سودانية عدة، وما يُنقل عبر قنوات شبه مغلقة تتبع لتيار الإسلاميين، فإن هناك خطة تسير بخطى ثابتة. ليست انقلابًا عسكريًا تقليديًا، بل إعادة تموضع تدريجية داخل جسد الجيش، تُهيئ الأرض للضربة الأخيرة حين يحين وقتها.. ولعل أكثر الإشارات وضوحًا ما خطه نجل أيقونة الإسلاميين عبيد ختم، وهو يكتب على صفحته أمس الأول منشورًا يدعو ضمنًا للاستعداد لأمر قادم. ولعل البداية كانت بإعادة تأهيل العطا في الوعي العام، وتقديمه كرجل المرحلة. تليها إعادة انتشار محسوبة للضباط الموالين للحركة في المواقع القيادية والمناطق الآمنة، خصوصًا في ولايات الشرق والشمال عبر كشوفات التنقلات الإخيرة، وإعادة انتشار القوات في عدد من المواقع، وسحب مقاتلي كتيبة البراء بن مالك من كردفان ودارفور وإعادتهم إلى الولايات الشمالية والشرقية بدعوى تغيير المهام، أما الخاتمة، فهي لحظة حاسمة، لا أحد يعرف شكلها، قد تكون بيانًا من القيادة، أو وفاة مفاجئة، أو حتى قرارًا رئاسيًا لا يُكمل أسبوعه الأول، وللحركة الإسلامية باع طويل في إزاحة الخصوم، فلا تزال من بين الظلال الثقيلة التي تحوم فوق المشهد، تبرز تلك الحوادث الغامضة التي لم تجد تفسيرًا يُطفئ الريبة. مقتل الفريق أول جمال عمر في جوبا، وقد كان وقتها من ركائز المجلس العسكري، جرى في توقيت حرج وبملابسات لم تُروَ كاملة. لم يكن الرجل بعيدًا عن مفاتيح القوة، ولا منقطع الصلة بخيوط الإسلاميين في الجيش، فجاء رحيله وكأن يدٌ خفية أرادت كتم صوت، أو طيّ صفحة قبل أوانها.
ومن جوبا إلى الخرطوم، لا تزال رياح الشك تعصف بمقتل اللواء أيوب، الذي سقط بطائرة مسيّرة بمنطقة الشجرة في ظروف غامضة، كما أن حادثة تحطم الطائرة التي قضى فيها اللواء بحر بمدينة أم درمان، لا تختلف كثيرًا وحولها العديد من الأسئلة المعلقة، كل تلك الحوادث تبدو كأنها نقاط في سلسلة واحدة، لا تفصلها سوى المحطات. كلها وقعت في خضم صراعات مكتومة داخل المؤسسة، وبين ضلوعها أنفاس تيارات متنازعة على النفوذ والمصير.
ولعل أكثر من يستدعي تلك الظلال الآن هو البرهان نفسه، إذ يسير في درب شائك تحيط به الهواجس ذاتها: فالرجل الذي يحاول الإمساك بخيوط الحكم، ويتمايل بين موازين الداخل والخارج، بات مثقلًا بإرث من الخصومات، من الإسلاميين الذين ظنوا أنه في صفهم، إلى دوائر مدنية باتت تستدعيه للمساءلة. فإذا كان جمال عمر قد قضى في جوبا وهو يفاوض، فإن مصير البرهان قد لا يكون بمنأى عن مفاجآت الطريق، خاصة إذا ضاقت الدوائر وتكاثفت ظنون “المسرح المغلق”.
تحالفات في الظل
المعركة ليست محلية بالكامل. فالدعم الإقليمي لحراك الإسلاميين ليس سرًّا. جهات في الإقليم تنظر إلى السودان بوصفه ساحة لا يجب أن تُترك للفراغ، وترى في البرهان قائدًا غير مضمون، بينما ترى في شبكة الإسلاميين داخل الجيش، ضمانًا لاستمرار نفوذها، وحائط صد ضد تمدد القوى المناوئة لها.
في المقابل، يحاول البرهان اللعب على أوتار أخرى. يستعين بتفاهمات غربية، ويضع أمام المجتمع الدولي ورقة أنه الرجل الذي يقف ضد التطرّف الإسلامي، ويُخشى أن يؤدي إسقاطه إلى اختلال المعادلة برمتها. لكن هذا الرهان يبدو هشًا، إذ إن العالم أصبح أكثر انشغالًا بملفات أكبر، بينما يترك السودان يتدحرج نحو الهاوية دون كثير اكتراث، وقبل ذلك فان الرجل باتت ثقته عند الغرب وأمريكا وحتى إسرائيل تتآكل كما أوضحنا في مقال سابق.
خيارات لا تحتمل الترف
البرهان يمتلك وقتًا ضئيلًا، وخيارات أضيق. يستطيع أن يُبادر بإعادة ترتيب أوراق القيادة، وإزاحة بعض من بات ولاؤهم موضع شك، لكن ذلك سيُفجّر المؤسسة من الداخل، وقد يُسرّع من السيناريو الذي يخشاه. يستطيع أيضًا أن يواصل مسار التوازنات الهشة، لكنه بذلك يراهن على شقّ بدأ يتحلّل تحت قدميه.
في المقابل، الإسلاميون أكثر تنظيمًا، وأكثر استعدادًا للتحرك إذا شعروا بأن لحظتهم تقترب، لا يحتاجون لشرعية دولية، ولا يأبهون لها، بل يكفيهم أن يعيدوا تدوير الدولة تحت واجهة أمنية أو عسكرية، يلبسونها ثوب الاستقرار، ويكسبون بها وقتًا يُهيئون فيه المسرح لعودتهم إلى واجهة الحكم كاملة.
ما بعد المعركة
السؤال لا يتوقف عند من يُسقط من أولًا، بل يتجاوز ذلك إلى ما سيحدث بعد السقوط. هل الجيش مستعد لانقسام عمودي في قيادته؟ وهل تستطيع الحركة الإسلامية أن تُمسك بالخيوط دون أن تشتعل الجبهات من جديد؟ وهل الشارع الذي قد يقبل بجيش موحد، سيصمت إذا عاد رموز التمكين، ولو في زيّ عسكري؟
الاحتمال الأقرب، بحسب ما تقوله الوقائع، أن تتم إزاحة البرهان بشكل سلس، وربما ضمن صفقة لا يُكشف عنها علنًا. لكنه احتمال محفوف بالخطر، لأن أيّ محاولة لإقصائه دون توافق داخلي قد تُفجّر الجيش من الداخل، وتُعيد البلاد إلى مربع اللا قيادة.
النهاية لم تُكتب بعد
في بلد يتقاطع فيه السلاح بالولاء، والماضي بالحاضر، ليست هناك نهايات مؤكدة. كل خطوة تُبنى على ما قبلها، وكل تأخير في الحسم يفتح الباب لاحتمالٍ آخر. وحده الزمن، ومعه قدرة الأطراف على المبادرة، هو من سيحسم سؤال اللحظة: هل يُسقط الإسلاميون البرهان كما أسقطوا من قبله؟ أم أن البرهان، الذي خاض حربًا بلا نهاية، سيتّخذ أخيرًا قراره ويُسقط خصومه من داخل ردائه؟
الساعة تدقّ، والحدث يقترب. ولعلّ أخطر ما في المشهد، أن من يُبادر قد لا يمنح الآخر فرصة الرد، بل قد يُغلق دائرته إلى الأبد ويبقى مصير البلاد معلقًا على سؤال من سيضع الختم على القرار الأخير؟