الشرعية للوطن.. لا غيره
منذ اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل 2023، ونحن نعيش في ظل كارثة وطنية غير مسبوقة. عامان ونيف من الاحتراب، والنزوح، والجوع، والدمار، والخذلان السياسي، أوصلتنا إلى مفترق طرق قاسٍ: وطن تتقاسمه حكومتان، ولا يحكمه أحد. حكومتان تبحثان عن الشرعية، دون حكم القانون، ولا حتى رضا الناس. اليوم، وبلا مبالغة، نحن نعيش لحظة موت الدولة بين فكي كماشة: سلطة أمر واقع تسيطر بالقوة المسلحة، وسلطة موازية تتنازع السيادة من منفى بعيد، وبينهما شعب يذوي.
لم تعد أزمة السودان أزمة حكم فقط، بل تحولت إلى مأساة وجود. الشرعية التي يتحدث بها المتصارعون — سواء باسم الدستور أو الثورة أو القوة — تتلاشى كلما نُطقت، فالواقع الصارخ على الأرض يكشف أن لا أحد يحكم، وأن كل من يدّعي السلطة يفتقد إلى ركائزها الأخلاقية والإنسانية والوظيفية.
هل يمكن لحكومة أن تزعم الشرعية فيما أطفال الفاشر وزمزم يموتون من الجوع، لا لأن الطعام غير موجود، بل لأنه محجوب عنهم عمداً أو عجزاً؟
هل من شرعية تُمنح لسلطة لا تستطيع توفير شربة ماء لمواطني عطبرة الذين باتوا يركضون خلف تنكر مويه كأنهم يطاردون سراباً في صحراء؟
كيف تقنع مريض السكري في دنقلا أو بورتسودان أو عطبرة بشرعية حكومة لا توفر له جرعة إنسولين تحفظه من الغيبوبة والموت؟
أي شرعية تُستمد من خزائن ممتلئة بالذرة في كادوقلي، بينما يشتبك المواطن الجائع مع الجندي المسلح على “ملوة ” منه يسد بها عواء بطون اطفالة؟
وما قيمة أن تُعلن نيالا عاصمة لحكومة “السلام”، بينما يمشي أبناؤها في شوارعها مودعين ذويهم كل صباح، لأن رصاصة طائشة أو عصابة منفلتة قد تُنهي يومهم في أي لحظة؟
الشرعية، في كل تقاليد السياسة، تُستمد من قدرة السلطة على خدمة المواطن، على حمايته، على منحه الإحساس بالأمان، على الإبقاء على كرامته الإنسانية. وما نراه اليوم ليس سوى انتزاع لهذه القدرة، وانهيار شامل لعقد المواطنة. لا الجيوش تُنقذ، ولا الحركات تُحرر، ولا المجالس تُدير، ولا القرارات تُطبَّق.
نحن في لحظة تقترب فيها الوقائع من وصف “اللا دولة” بكل ما تحمله الكلمة من دلالات. فالسودان اليوم ليس فقط بلا حكومة فاعلة، بل بات مساحة مفتوحة للعبث الإقليمي، وللانهيار الاجتماعي، وللانتكاس القيمي. في ظل هذا المشهد، تصبح أحاديث “الشرعية” ضرباً من الترف السياسي، لا يصمد أمام أبسط الأسئلة التي يسألها طفل يبحث عن وجبته الوحيدة في اليوم، أو أم تمشي ثلاث ساعات لتجد ماءً ملوثاً تروي به عطش زوجها المقعد.
لقد أنتج الانقسام السياسي والعسكري في السودان مشهداً عبثياً: حكومتان، وعشرات الجيوش، وأربع عملات متداولة، وملايين مشردين، ومئات القتلى كل أسبوع، ولا جهة واحدة يمكن أن تقول بثقة إنها “تحكم” أو “تُدير” الدولة.
والأخطر من ذلك، أن كل طرف لا يزال يُراهن على الزمن: من في الداخل ينتظر أن يُسحق خصمه، ومن في الخارج ينتظر أن تفرغ الأرض لعودته. لكن الشعب وحده هو الذي يُستنزف، ويُطحن، ويُنسى.
ما يهم المواطن الآن ليس مَن يُمسك بالمقعد في قاعة التفاوض، بل من يمد له أنبوبة الأوكسجين في عنبر المستشفى، أو من يضمن له وجبةً لأطفاله في آخر اليوم. من يُعيد فتح المدرسة المغلقة، ويُفعّل شبكة الكهرباء المعطلة، ويمنع المسلح من اختطاف ونهب المارة في وضح النهار في شوارع أم درمان.
لا شرعية دون عدالة اجتماعية. لا شرعية دون أمن. لا شرعية دون إدارة فعلية لشؤون الناس. والكارثة أن طرفي النزاع لا يبدوان مستعدين للاعتراف بهذه الحقيقة القاسية. كلٌّ يغني ليلاه، ويُحصي ولاءاته واعترافات العواصم، ويتحدث عن “الحسم” و”الحوار” بينما تنزف الخرطوم، وتجوع دارفور، وتتفسخ مؤسسات الدولة في الشرق والشمال والجنوب.
لم يعد من المجدي أن نسأل: من يحكم السودان؟ بل الأجدى أن نسأل: هل هناك من يحكمه فعلاً؟
وإذا لم يكن هناك من يحكم، فمن الذي ينقذه؟
السودان اليوم في مفترق طرق: إما أن تنبثق شرعية جديدة من صلب المعاناة، من عمق الأرض، من الناس الحقيقيين، لا من بنادق الأمر الواقع ولا من منصات الخارج — وإما أن نظل نتفرج على موت وطن بحجم قارة، يموت مقطعاً إلى حكومتين، وممزقاً بين جيشين، وجائعاً بين بيانات لا تشبع.
الوقت ليس في صالح أحد. وكل يوم يمضي دون حسم للمأساة هو جريمة جديدة. المطلوب اليوم ليس “شرعية طرف”، بل استعادة شرعية الوطن. والوطن لا يُستعاد بالخطب، بل بإرادة تتجاوز السلاح، وتضع الإنسان في المركز.
حتى ذلك الحين، لا حديث عن الشرعية مجدٍ. فالشرعية الوحيدة الآن، هي شرعية الجوع، والعطش، والخوف. وهي لا تمنح أحداً الحق في الحكم — بل تمنح الجميع عار التواطؤ.