في شجن الغربة: هل للخرطوم معنى؟

خالد فضل

 إلى جوبا يشدني الحنين، ليس للمكان تحديدًا، للحال تطوى المسافات القصيات وجدًا، لا تكاد تثبت في الخاطر ملامحها، فليس هناك برج إيفل أو تمثال الحرية أو أهرامات الجيزة كمعالم ثابتة للمدن، فقط جبل كجور، يرمز إلى الطبيعة التي هي جزء من المكان، ويبقى الحال عصيًا على النسيان، إذ هي رمز وليست بقعة، وجدان وعقل وليست عاصمة، وبقدر وفائها لرمزيتها يستمر وجودها.

 ما بال الخرطوم تدخل على خط المواجهة الآن، هل من حنين للمكان بزعم ما شفنا جمالو.. أم مقرن النيلين كظاهرة طبيعية فريدة في كل الأرض. الخرطوم البيوت، والطوب والأسمنت ولها حكايات وصناديق ومعونات ومدخرات. أم الخرطوم أنفاس الناس، وجوههم، شقاواتهم الممتدة، والثورة الحيّة، وليس ثورة محلية أم درمان ذات الحارات، وحتى هذه، رمزها الباقي لم يفنَ الشريف محجوب. الناس هنا، النقاشات والندوة والموكب والجرائد وكمبوني ولعن سنسفيل الكيزان. الناس هنا، كل الأجناس والأعراق والجهات واللغات واللهجات والعادات، وتلك المناسبات يا سلام، عصرًا بالشلك واللاو ومساء مع شرحبيل والجاز وعقد الجلاد.

  المكان فراغ شاحب، مظنة وحشة وريبة وشكوك، يعمره الناس، تلك ساحات وبراحات كانت قبل التمدد أشواك، يملأ الفرح المكان أو (البكان) إذ تنتصب حيطان، الجدران خواء، لكن ضحكات الأطفال، تسد الثقوب، تنسرب براءتها بين الشقوق، فإذا العيال كبرت، سيّروا الليلة يوم جديدو، ومن العدم تنهض آلاف المدن قامات، شجر متشابك الهامات، وبيوت الديم المفتوحة نفاج نفاج على الجيران في أم درمان.. وباب السنط والساكنين أفواج أفواج.. الخرطوم معنى، الإلفة في شارع النيل بعد إبطال مفعول الكشات، المكان مغنى بالهتاف حرية سلام وعدالة والشوارع لا تخون، أصناف أصناف، والليلة ما بنرجع إلا الجنوب يرجع .. يا لها من معان عندما تصدح حرة آلاف الخواطر الندية والوقت نهار.. وللفجر أوان مضروب تسبقه أشدّ لحظات الليل عتمة؛ سيؤوب الفجر يا صاح.

والخرطوم، مركز الشجن يتفتت، محل الرئيس بنوم نومو خزاز، فلا رئيس دون انتخاب في خرطوم المعنى الجديد، لا كاب ولا زيطة وزمبريطة، فها هي سيارة موخيكا في البورغواي حتى مات لم تفسح لها في الشوارع مسافات، ها هو، أوباما يترافع في القضايا كمحام شاطر، وهيلاري، وساركوزي.. ووو.. فأين من هتفت خلفه الناس سير سير.. تلك عبرة الحياة لمن يعي الدنيا دار عبور.. الله حق، ولو امتهنت باسمه كرامة العباد، والخرطوم تنهض من ركام المتفجرات وغارات الحطام وغازات الكيماوي السام، ومن نهب الجنجويد من كل فيلق تجنجدوا، الخرطوم إنْ صحت الإرادة، يا العِنْدِي جمالك جنّة رضوان، مأهولة بالعيون السودا، تطرب مع القدال.. تدوبي لحميد تنقز مع المداح، والدنيا صباح والناس نصاح.. تلك خرطوم من أحب المعنى، وعاشق حجز المخططات السكنية إلى قماح، قاتل النفس مهلك الروح إلى السجن، فلتبرأ الارواح من القتل السفاح.. يا لها من خرطوم.. إذ نجيئها سياح، متحفًا وقاعة، مسرحًا وطابية، وتوتي أرخبيل .. نجيئها محملين بالعدس والفول الذهب والدخون والثيران والأسماك ولا نرجوها نمدّ الأيادي شحادين ثمن طق الهشاب، وعفر البنزين، الخرطوم معنى الفلاح حين يصح بناء الدار الوسيعة، نجرتقها بأغنياتنا وأمنياتنا ولا ندخلها من غضب غزاة تلك هي العودة.

  الخرطوم المعنى، هل يمكن إليها الوصول، ليست مركزًا قامعًا بل مرتعًا باذخًا رمزًا للوطن البتول، هذا هو الوصول.. ليس هناك إيفل أو تمثال وأهرام بل ليس هناك جبل كجور، إنّما المرخيات، سيئة الصيت بضرب النار وتجنب الظهور، بالدروة مجزرة الوليدات، ذاك ما بدد الخرطوم المعنى وأرخى الحزن ثوبًا يا خالد الزبير المقتول، وبات (الأمل) في شكل ديكور قبيح للخرطوم المبنى الوصول، فهل من تاني حنين.. يا نيالا البحير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى