روعة.. طلاق دامٍ

 

أفق جديد

لم تكن أصوات الرصاص ولا أزيز الطائرات هي ما دوّى في مروي ذلك النهار. كان الصراخ البشري أكثر فزعاً، وكانت الدماء على الأسفلت أبلغ من كل قذيفة. في لحظة خاطفة، غُرست ستة عشر طعنة في جسد الطبيبة روعة علاء الدين، نائبة اختصاصية التخدير، عند بوابة المدينة الطبية.

سقطت روعة بين أيدي زملائها الذين هرعوا لإنقاذها، لكنها فارقت الحياة قبل أن تغلق جفنيها للمرة الأخيرة. كانت الطبيبة التي تُحيي المرضى تحت أجهزة التخدير عاجزة عن إنقاذ نفسها من يد رجل كان يوماً أقرب الناس إليها: طليقها.

الجريمة لم تقع في الأزقة المعتمة، ولا على أطراف مدينة منهكة بالحرب، بل في وضح النهار، أمام عيون المارة، في مكان يُفترض أن يكون ملاذاً للشفاء. وهنا تكمن فداحة المشهد: حربٌ صغيرة استنسخت من الحرب الكبرى، مسرحها جسد امرأة وحلمها الذي قُطع بسكين.

حماية السلاح

بيان مستشفى الضمان بمروي أكد أن القاتل سبق أن اعتدى على الراحلة داخل حرم المستشفى نفسه، وأن بلاغاً قانونياً فتح ضده. لكنه خرج من السجن سريعاً، ليكرر جريمته بدمٍ أبرد، ثم يطعن خال الضحية خارج المستشفى. هذه العودة المريبة إلى الشارع فتحت الباب واسعاً أمام الشبهات: كيف يفلت رجل اعتدى مرتين من الحبس؟

الجواب، كما يقول ناشطون، يكمن في صلاته بمجموعة “البراءون” المقاتلة ضمن صفوف الجيش في معركة الكرامة. صلة جعلت منه، في نظر كثيرين، محمياً بسلاح الجماعة، قادراً على الدوس فوق القانون، ومحصناً ضد أي ردع.

 جُرحٌ مفتوح

لم يكن مقتل روعة حادثة معزولة. الذاكرة القريبة لا تزال تحتفظ باسم طبيبة سودانية أخرى، قُتلت على يد طليقها في السعودية. كأن العنف يلاحق الطبيبات تحديداً، حيث يتحول نجاحهن المهني إلى مرآة تثير في بعض الرجال إحساساً بالدونية، في مجتمع يضع قيمة الذكورة فوق أي اعتبار. هنا، لا يعود القتل جريمة فردية فقط، بل امتداداً لأزمة مجتمع كاملة.

تبرير للقاتل

بينما ارتفعت الأصوات المطالبة بالقصاص، خرج آخرون لتبرير الجريمة. دعاةٌ معروفون، مثل محمد هاشم الحكيم، لم يترددوا في تحميل الضحية جزءاً من المسؤولية، مبررين دمها بكلمات ملغومة. كان المشهد أقسى من الطعنات نفسها: مجتمع ينقسم بين من يرى في دم المرأة ثأراً يجب أن يُقتص له، ومن يراه ثمناً “مستحقاً”.

نهاية حلم

 

روعة، خريجة جامعة التقانة، نزحت من أم درمان إلى الصالحة بعد اندلاع الحرب، ثم لجأت إلى مصر مثل آلاف السودانيين. لكنها لم تحتمل الغربة، فعادت بإصرار لتكمل تدريبها في مروي، متمسكة بحلم أن تصبح اختصاصية تخدير. لم تكن تدري أن عودتها ستكون موعداً أخيراً مع قاتل يتربص بها.

في 2024، حكمت المحكمة لها بالطلاق وحضانة ابنتها. القاتل استأنف الحكم، لكن ما لم يربحه بالقانون استرده بالسلاح الأبيض. وما لم يستطع القضاء حسمه، حسمه هو بست عشرة طعنة.

 إلى الثلاجات

في الماضي، كانت خلافات الأزواج تُحلّ بـ”الجودية” وسط الأهل. اليوم، صارت قاعات المحاكم مكتظة بملفات الطلاق والنزاعات، وتحولت بعض القضايا إلى جرائم قتل تُسجَّل تحت بنود القانون الجنائي لعام 1991: قصاص، دية، أو عفو. لكن في زمن الحرب، حتى هذه المعادلة البسيطة صارت هشة، لأن القانون نفسه أصبح رهينة للسلاح، لا لميزان العدالة.

دم يصرخ

دماء روعة علاء الدين لم تجف بعد على إسفلت مروي، لكنها تصرخ في وجه الجميع: هذا ليس قتلاً عابراً، بل إعلان عن زمن صار فيه جسد المرأة ساحةً مفتوحة لتصفية الحسابات، وحائطاً واهناً تنهار عليه كل عُقد الحرب ومآسيها.

السكين التي اخترقت جسدها ستة عشر مرة لم تكن مجرد أداة جريمة؛ كانت نسخة صغيرة من المدفع والدبابة والطائرة، سلاحاً استُنسخ من الحرب الكبرى ليُستعمل في حربٍ أكثر قسوة: حرب البيت، حرب الطلاق، حرب الغيرة، حرب المجتمع ضد نسائه.

والمأساة أن القاتل لم يكن يختبئ في الظل، بل فعلها في وضح النهار، مطمئناً إلى أن القانون يمكن أن يُطوى إذا كان وراءه سلاح أو جماعة. وهنا يكمن السؤال الذي يطعن المجتمع كله: إذا لم يحمِ القانون طبيبة تحمل في يدها أدوات إنقاذ الأرواح، فكيف يحمي امرأة عادية بلا سند ولا ظهر؟

روعة لم تمت وحدها. مات معها وهم أن المرأة في السودان يمكن أن تحيا آمنة وسط مجتمع يبرر العنف بالصمت أو بالدين أو بالعرف. موتها هو مرآة مرفوعة في وجه الجميع، تعكس قبحاً يتهرب الناس من النظر إليه.

وإذا كان للحرب الكبرى جبهات معلومة، فإن حربها الصغيرة، الأشد غدراً، ما زالت تُشن في البيوت والشوارع والمستشفيات، على أجساد النساء، كل يوم، وكل ساعة.

وحين تُستباح النساء بهذه السهولة، فإن المجتمع كله يكون قد كتب على جبينه حكماً لا يقل بشاعة عن الطعنة الأخيرة التي أنهت حياة روعة علاء الدين: الموت بلا خوف، في وطنٍ بلا عدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى