تغيرات في المشهد..

شاير الإثيوبية… من بلدة حدودية إلى مركز إقليمي لتهريب الذهب السوداني 

بقلم: أشنافي إنديل

لم تكن مدينة شاير الصغيرة في شمال إثيوبيا معروفة خارج حدود إقليم تيغراي، سوى كمركز محلي لتجارة الذهب. لكنها خلال العامين الماضيين تحولت إلى قلب شبكة إقليمية معقدة لتهريب المعدن النفيس، حيث يتقاطع الاقتصاد الموازي مع الأزمات السياسية، وتتشابك مصالح الجنرالات والتجار والمجتمعات الحدودية.

التحقيق الذي أجرته صحيفة “ذا ريبورتر” يكشف أن معظم الذهب الذي يصل إلى فرع البنك الوطني الإثيوبي في شاير ليس محلياً بالكامل، بل يُخلط فيه ما يستخرج من مناجم تيغراي بذهب يُهرّب من السودان وإريتريا، بل وحتى من أماكن أبعد مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية. هذا الخليط يجد طريقه في النهاية إلى خزائن البنك المركزي، الذي يعد المشتري القانوني الوحيد للذهب في البلاد.

الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المعادن الإثيوبية مثيرة للانتباه، إذ ارتفعت كمية الذهب المورد من تيغراي إلى نحو تسعة عشر طناً خلال العام المالي 2024/2025، مقارنة بأقل من نصف طن في العام السابق. وبلغ إجمالي ما تسلّمه البنك الوطني من مختلف الأقاليم حوالي تسعة وثلاثين طناً، وهو ما ساهم في تحقيق إثيوبيا رقماً قياسياً تجاوز ثلاثة مليارات وأربعمئة مليون دولار من صادرات الذهب، أي أكثر من تسعة أضعاف ما جرى تحصيله في العام السابق. الحكومة عزت هذا الارتفاع الكبير إلى تحرير سعر الصرف في يوليو/تموز 2024 وزيادة هوامش الربح للموردين، غير أن العديد من الخبراء يؤكدون أن العامل الحاسم كان التدفق المفاجئ للذهب عبر شاير.

هذا النجاح الظاهري يخفي وراءه مفارقات صارخة. فالشركات الكبرى لم تتمكن من تحقيق إنجازات تذكر، حيث لم تسلّم شركة ميدروك سوى 2.7 طن، في حين لم يتجاوز إنتاج ثلاث شركات أخرى مجتمعة ستين كيلوغراماً. أما شركة إيزانا التابعة لصندوق إعادة تأهيل تيغراي فلم تقدم شيئاً على الإطلاق. في المقابل، جاء معظم الذهب من التعدين الحرفي الذي يمارسه آلاف المنقبين الصغار في تيغراي وغامبيلا وأوروميا وبنيشانغول-جوموز، بعيداً عن أعين الشركات الرسمية.

مصادر متعددة تؤكد أن مدينة شاير صارت نقطة جذب للذهب المهرب بفضل الأسعار المرتفعة التي يقدمها فرع البنك الوطني هناك. فكلما ارتفع السعر الرسمي، زادت الحوافز لتهريب الذهب منخفض الجودة عبر الحدود وخلطه بالذهب الأنقى المستخرج محلياً. وهكذا تتحول العملية إلى تجارة مربحة للموردين والوسطاء على حساب الدولة التي تفقد السيطرة على مواردها. أحد المتعاملين في هذه السوق يقول إن الذهب الأرخص القادم من السودان وإريتريا وغامبيلا يُخلط بالذهب الأغلى ثمناً في شاير، ثم يُورد إلى البنك الوطني بسعر أعلى بكثير، مشيراً إلى أن هذه الممارسة أصبحت روتينية ومفتوحة.

التجارة لا تقتصر على داخل إثيوبيا وحدها، بل تمتد إلى حدودها المضطربة. ففي السودان الذي مزقته الحرب، صار الذهب وسيلة رئيسية لغسل الأموال وتمويل صفقات السلاح، بينما يفضّل بعض ضباط الجيش الإريتري تهريبه عبر تيغراي بدلاً من تسليمه لحكومتهم في أسمرة. هؤلاء الضباط يحصلون في المقابل على سلع أساسية مثل القهوة والتيف والإسمنت والألواح الشمسية. القرى الحدودية الصغيرة مثل آدي كيلتي وإيغون وراما تحولت إلى أسواق جانبية لهذه التجارة، التي تتقاطع مع مسارات أخرى مثل الإتجار بالبشر بين إريتريا وإثيوبيا.

ورغم هذه الطفرة في الأرقام، فإن قطاع التعدين في تيغراي يعاني أزمات متداخلة. انتشار وباء الكوليرا في مناطق التعدين أدى إلى تعليق الأنشطة في بعض المواقع، كما أن عمليات التنقيب العشوائي تسببت في أضرار بيئية واسعة. يضاف إلى ذلك غياب الشفافية في سجلات الإنتاج والتوريد، الأمر الذي جعل المسؤولين المحليين أنفسهم يعترفون بعدم اليقين بشأن مصدر الكميات الضخمة التي دخلت عبر فرع شاير. بيريكتي جيبريميدين، رئيس مكتب التعدين في تيغراي، قال صراحة: “لسنا متأكدين من أن كل هذا الذهب منتج محلياً، وعلينا التحقيق في الأمر”.

الأزمة لا تقتصر على ما يحدث في الميدان، بل تشمل أيضاً طريقة احتساب الأرقام الرسمية. فالبنك الوطني الإثيوبي يقدّر حجم الذهب المورد بناءً على الأموال التي ينفقها على الشراء، بما في ذلك هوامش الأرباح التي يمنحها للموردين. هذا يعني أن البيانات قد تعكس حجم الأموال المتداولة أكثر مما تعكس الذهب الفعلي الذي يدخل إلى الخزائن. مراقبون يؤكدون أن المسؤولين يتلقون رشى ويصادقون على أرقام مبالغ فيها، تُستخدم لاحقاً من قبل الحكومة لتلميع صورة الاقتصاد الكلي وإظهار نجاحات إصلاحاتها المالية.

وفي مواجهة هذه الفوضى، أعلنت الإدارة المؤقتة لتيغراي بقيادة الفريق أول تاديسي ويريدي عن تشكيل لجنة لتقييم قطاع التعدين وإعادة هيكلة مكتب التعدين الإقليمي، وكذلك شركة إيزانا. غير أن هذه الخطوات ما تزال في بدايتها، فيما تستمر حركة التهريب بوتيرة متسارعة وبأساليب أكثر تعقيداً.

قصة شاير تكشف أن الذهب في إثيوبيا لم يعد مجرد معدن نفيس يُستخرج من باطن الأرض، بل أصبح ورقة سياسية واقتصادية تتجاوز حدود الدولة. ففي إريتريا يستخدم بعض الجنرالات هذه التجارة لتمويل نشاطاتهم بعيداً عن أعين الرئيس أسياس أفورقي. وفي السودان أصبح الذهب مرادفاً لاقتصاد الحرب. أما في إثيوبيا نفسها، فقد صار أداة لرفع أرقام الصادرات على الورق وجذب المستثمرين، حتى لو كان ذلك على حساب البيئة والمجتمعات المحلية.

بيريكتي، الذي تولى قيادة مكتب التعدين بعد تغييرات واسعة في الجهاز الإداري، اختتم تصريحاته بتحذير صريح قائلاً: “لا يمكن اعتبار ما حدث في شاير نجاحاً خالصاً. نعم زودنا البنك الوطني بكميات هائلة، لكن هناك مشاكل عميقة. إذا استمر التعدين بهذا الشكل الفوضوي وغير المستدام، فسوف ندفع جميعاً ثمن تعقيدات خطيرة في المستقبل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى