حكاية من بيئتي..غنم السيدة

محمد أحمد الفيلابي
ــ بي التّلَحِقْكُم غنم السيدة.
كانت تصب جام غضبها على أحفاد شقيقتها، لكن الجدة لم تحرك ساكناً، فهذا النهر من الغضب الكاسح قد يفيض عليها فيغرق صبرها، ويخدش صيامها، ويكسر صمتها حيال كل ما يبدر عن شقيقتها الأصغر، خاصة في مثل هذه الأيام من منتصف الشهر القمري. فقد لحظت منذ زمن طويل أن أيام صيامها الشهرية هذه تقابل بنوبة توتر عالية لدى من أغرقت عمرها في مشاعر سلبية، غضباً من جسدها الذي ضن عليها بحلم الأمومة، أو من الآخرين الذين رزقوا بالأبناء والأحفاد، يحومون حولهم مشيعين البهجة والسرور، فيما يكلل العبوس وجهها، وإن حاولت إخفاء الأمر. يربط البعض ظاهرة المد والجزر بزيادة الغضب لدى البعض، على زعم أن جسد الإنسان الذي يتكون من 75 إلى 78% من الماء، يتأثر بالمد والجزر في البحار. حيث تحدث جاذبية القمر والشمس على الأرض ارتفاعاً وانخفاضاً في مستوى البحر، وكذا في أجساد البشر.
ويقول أهل هذا الزعم إن المد يؤثر في جسد الإنسان، فتظهر علامات الضيق والتوتر والغضب. بل يذهب البعض أعمق حين يقولون إن صيام الأيام البيض من الشهر القمري تقلّل من نتائج هيجان الروح. ورغم أنه لا يوجد دليل علمي قاطع على تأثير الظاهرة على جسم الإنسان أو سلوكه، إلا أن هناك بعض النظريات غير المثبتة علمياً تشير إلى أن الدورة القمرية قد تؤثر على مزاج الإنسان وعواطفه.
قد لا يكون الأمر متعلقاً بالأحفاد العائدين من المهجر لقضاء أيام مع جدتهم، يجعلون للبيت طعماً آخر من الصخب وشقاوة الطفولة التي تخلف المشاعر المتباينة لدى الجدتين. تتفقان في محبة الأطفال كلٍّ بحسب طاقة التحمل لديها، ذلك بمثل اتفاقهما أن في هجرة الابن الطبيب خسارة لهما، مثلما هي للبلد بأكمله، بيد أنهما توقنان مثل الكثيرين أن الهجرة أضحت خياراً أوحد، وفرضاً على كل من يضيق به وطنه، أو تقوده تطلعاته إلى حياة لن يجدها في بلده.
ــ يفوتوا يخلونا.. وإن جابوا عيالهم يزعجونا..
قالتها، وهي لا تدري إن كانت تعتذر عن صب اللعنات على هذه البراءة، أم هو تقرير حال.
وفي مرة عبرت أن خروج هؤلاء مهّد الطريق لأن يسود البعض ممن لا يستحقون أن يسودوا، وفي ترك الديار فرصة لهم ليعوسوا فيها فساداً وإفساداً.
قبل تسع سنوات من اندلاع الحرب، نشرت (البي بي سي عربية) تقريراً جاء فيه أن “عدد المثقفين ثقافة عالية ومتخصصة، الذين هاجروا منذ العام 2014 حوالي 50 ألف، معظمهم من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات”. ويرتفع العدد إلى 374 بالعودة إلى العام 2009، وإضافة رجال الصحافة والإعلام، لأسباب انعدام الحريات”. ويظل التساؤل قائماً وإن لم يرد على لسان الجدة.
من المسؤول عن نزوح آلاف الكوادر والمهنيين عن بلادهم؟ هل هي سياسات الحكومة؟ أم الأوضاع الاقتصادية المتردية؟ أم العروض المغرية من الدولة المستقبلة لهم؟ وهل تصدق الجدة ومن هم في عمرها أن السودانيين يشكلون أكبر جالية افريقية في إسرائيل؟ نعم.. إسرائيل التي ما أن يأتي ذكرها في نشرات الأخبار حتى تقصفها الجدة بلعنتها الأثيرة.
ــ بي التّلَحِقْكم غنم السيدة.
وغنم السيدة في الحكاية المتداولة كان مصيرهن مصير (أمّات طه) في صباح صيفي حار. فبعد أن أغدقت هذه الوحيدة على أغنامها الكثير من الدلال والحماية ما يفتقده بعض بني البشر في تلك القرية. فقد منحت أغنامها ما كانت ستمنحه أبناء لم يأتوا، شأنها شأن هذه الجدة الغاضبة، لكنها نفقت.
كانت السيدة بت الطيب تحرص أن تعلف أغنامها أفضل أنواع العلف، وتخرج بها في الصباح الباكر بقصد السرحة، ثم تعود قبل أن يخرج الناس إلى أشغالهم، فهي تخاف أن يراهم أحدهم أو احداهن فيصيبهم سهم الحسد، خاصة شقيقها موسى ود الطيب الذي ورث عن أبيه الاهتمام بالدواب وخاصة الأغنام، فأصبح يجيد تطبيبها وعملية (جز) قص أو إزالة الصوف عنها. تلك العملية الموسمية التي تساعد على تهوية جلد الحيوان، مما يقلل من خطر الإصابة بالإجهاد الحراري، ويقي من ضربات الشمس، خاصةً في فصل الصيف، ويمنع عشعشة الفطريات والحشرات الضارة جراء التعرض لرطوبة أرض الزرائب المليئة بمخلفاتها. يقوم بالأمر لكل أغنام القرية، وفي الأسواق، إلا أنه لا يجرؤ على الاقتراب من غنم أخته السيدة التي تقوم بالعملية بنفسها. فقد درجت على غسل أغنامها قبل الجز بأيام كما هي العادة، تشحذ سكينها، وتجلس لتقوم بالعملية بعناية، ثم تجمع الصوف وتقوم بغزله وتصنيعه بنفسها. إذ كانت تقضي أوقات القيلولة في فتل ونسج الصوف، ولا تبيع منتجاتها من حبال (المَرِيد) وتلك المخالي الصوفية المزركشة إلا للذين يقدِّرون صناعتها، ويثنون على براعتها. إذ يتباهى الواحد منهم بأن على دابته مخلاية السيدة، أو فروة السيدة، كما كانت تشكل بالحبال كل مستلزمات وإكسسوارات الركوبة، إن كانت حماراً أو حصاناً أو بعيراً.
وكذا هو الأمر مع جلود أغنامها، فقد كانت تبيع أغنام الذبيح لجزار محدّد يعرف أن ما يدفعه أكثر مما يدفعه للأغنام الأخرى، لكنه سيحصل على لحم جيد ووافر. لكنها كانت تشترط عليه أن يأتيها بالجلد بعد السلخ دون أي تشويه، ذلك في مقابل معلوم، فتقوم بعملية دباغته وتصنيعه مثلما تعلمت من أبيهما.
السيدة هبطت من عرش أنفتها ذلك بشكل مفاجئ، واعتزلت الناس أكثر مما كان الأمر في السابق. وخيّم على بيتها الصمت حتى رحلت لاحقة بأغنامها التي وجدت في ذلك اليوم أن نصفها قد مات، والنصف الثاني يئن، وتغطيها السوائل المخاطية، ورغم جهدها على مدى خمسة أيام على استدراك الأمر. كانت تردد في سرها أن ليتها سمحت لشقيقها أن يدخل عليها ذلك اليوم. إذ ها هي أغنامها دون سائر أغنام القرية قد هلكت.
تطوع موسى ود الطيب كعادته حين سمع بأن وباء (أب نيني) قد وصل إلى القرى شمال قريته، ذهب إلى هناك، وبقر بطون عدد من الجيف المصابة، واقتلع أكبادها، ووضعها في جرابه الجلدي وعاد ليقوم بـ(قروحة) (1) أغنام القرية. فقد كان يُحدث جروحاً صغيرة في أجساد الأغنام، ثم يقوم بدعك الجرح بقطعة الكبد المريض. وهكذا مكّن أغنام القرية من النجاة من الوباء، إلا أغنام شقيقته التي أصيبت وماتت كلها. ليسري المثل بأن العناية الأكثر من المعتاد قد تأتي، بنقيضها. ولأن الأغنام ماتت كلها في يوم وليلة، أصبح يقال (تلحق غنم السيد)، مثلما يقولون (لحق أمات طه).
(أب نيني) لعله طاعون المجترات الصغيرة، وهو التهاب القنوات التنفسية. أكتشف في ساحل العاج عام 1942، وسمى (كاتا)، وهو مرض فيروسي يصيب الأغنام بنوعيها (الماعز والضأن)، وتدوم فترة حضانته من ثلاثة إلى خمسة أيام، حيث تبدأ إفرازات مخاطية قيحية، تؤدي إلى ضيق التنفس، فالموت. وينتقل الفيروس عبر الهواء والماء، وكذا عن طريق الماء والملامسة، والأواني الملوثة.
من أين جاء موسى ود الطيب بتلك المعرفة؟ من قال له أن يسبق وصول الوباء إلى قريتهم؟
يمكن للمعارف التقليدية التي تأتي من العلاقات الوثيقة التي تربط المجتمعات المحلية ببيئاتها وخبراتها المتراكمة، أن توفر إستراتيجيات قد تكون منسية، متروكة، ولكن لها فعالية كبيرة. إذ تتسم المعارف والممارسات التقليدية التي تطورت من خلال التجربة والخطأ والصواب بمرونة عالية، فقد مكنت هذه التقنيات من إدارة المخاطر باستخدام مواد محلية. (2)
وإلى اللقاء في حكاية أخري من بيئتي.

الهوامش
(1) القروحة في اللهجة السودانية تشير إلى عملية التطعيم عبر وخز الجلد وتسكين جرعة مخففة من المرض.
(2) المصدر: موقع المركز الدولي لدراسة وصون الممتلكات الثقافية – 9 أغسطس 2024

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى