السودان… إبادة جماعية منسية والعالم يشيح بوجهه

بقلم: نيكولاس كريستوف – نيويورك تايمز

في الوقت الذي يحتدم فيه الجدل السياسي والإعلامي داخل الولايات المتحدة حول توصيف ما يحدث في غزة بـ”الإبادة الجماعية”، يظل هناك مكان آخر يُجمع الجميع – جمهوريون وديمقراطيون، مسؤولون وخبراء – على أن ما يجري فيه إبادة جماعية مكتملة الأركان، لكنهم يتعاملون معها بتجاهل شبه تام.

هذا المكان هو السودان، الذي يواجه اليوم ما قد يكون أكبر مأساة إنسانية في العالم. فمنذ العام الماضي أُعلنت المجاعة رسميًا هناك، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقارب 25 مليون سوداني يعانون من الجوع الحاد، فيما اضطر أكثر من 12 مليون شخص للنزوح عن قراهم ومدنهم نتيجة الحرب الطاحنة. ويؤكد المبعوث الأمريكي السابق إلى السودان، توم بيرييلو، أن عدد القتلى ربما تجاوز 400 ألف إنسان حتى الآن.

في يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت إدارة بايدن أن ما يحدث في السودان يرتقي إلى إبادة جماعية. والمفارقة أن إدارة ترامب الحالية كررت الوصف ذاته في أبريل/نيسان، وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ترى الوضع في السودان كواحد من أسوأ جرائم الإبادة في عصرنا الحديث.

لكن هذا الإجماع الحزبي في واشنطن لم ينعكس على الأرض. فبينما تعترف الإدارتان المتعاقبتان بجوهر الكارثة، لم تُبذل أي خطوات جادة للتصدي لها. بايدن اتُّهم بالتقاعس، والآن إدارة ترامب تمارس السلبية ذاتها، بل وتعمل على خفض المساعدات الموجهة للسودان، مما يعني سقوط المزيد من الأطفال جوعًا في الأشهر المقبلة.

قد تختلف الآراء بشأن مأساة غزة – وقد كنتُ من أبرز المنتقدين للسياسات الإسرائيلية وتواطؤ واشنطن في استمرار القصف والتجويع – لكن من الضروري الاعتراف بأن هناك فشلاً جماعيًا آخر في مواجهة كارثة السودان، التي تسببت في أعداد ضحايا تفوق حتى ما يجري في غزة. القضية ليست منافسة في الأرقام أو صرفًا للأنظار؛ علينا أن نملك شجاعة رؤية المآسي في كلا المكانين.

لكن الفشل في حالة السودان لا يقتصر على أمريكا وحدها. الدول العربية والأفريقية أسهمت في تعقيد الأزمة أكثر مما قدمت حلولاً لها. أما الأمم المتحدة، التي تباهت عام 2005 بمبدأ “مسؤولية الحماية”، فقد تحولت كلماتها إلى مجرد شعارات جوفاء بلا أي فعل حقيقي.

شهادات الناجين تقشعر لها الأبدان. على الحدود السودانية التشادية التقيت العام الماضي بامرأة تُدعى مريم سليمان، روت كيف هاجمت ميليشيا عربية قريتها: الرجال والفتيان فوق سن العاشرة اصطفوا ثم ذُبحوا بدم بارد، بينما تعرّضت النساء والفتيات للاغتصاب المنهجي. وأوضحت أن المهاجمين استهدفوا جماعتها الأفريقية السوداء بسبب لون البشرة، بل ونقلت عن قائد الميليشيا قوله: “لا نريد أن نرى أي شخص أسود بعد اليوم”.

هذه الصور المرعبة تعيد إلى الأذهان إبادة دارفور قبل عشرين عامًا. الفرق أن العالم كان أكثر انتباهًا حينها، بينما اليوم يبدو وكأنه أدار ظهره تمامًا. وكما قال أنتوني ليك، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة بيل كلينتون ورئيس اليونيسف لاحقًا: “إنها غزة نفسها، لكن على نطاق أوسع وبعيدًا عن عدسات الكاميرات”.

قبل عقدين، زار الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان دارفور، وسعى لحشد الجهود الدولية لوقف المجازر. اليوم، الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش يكرر تحذيرات لفظية بألا يتخلى العالم عن السودان، لكن حتى هو لم يذهب أبعد من الخطابات.

الحرب المستمرة منذ عامين بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع هي السبب المباشر لهذه الكارثة. الطرفان مارسا فظائع متكررة: حصار، تجويع، وقصف عشوائي. المدنيون هم الضحية الأولى. تقول سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الغذاء العالمي، بعد أن تعرضت ثلاث من شاحنات المساعدات للقصف بطائرات مسيرة هذا الشهر: “نُمنع من الوصول إلى الجياع، بل نُستهدف لمجرد محاولتنا إطعامهم”.

رغم أن كلا الطرفين ارتكب جرائم حرب، فإن أصابع الاتهام تتجه خصوصًا نحو قوات الدعم السريع، المسؤولة عن حرق القرى وارتكاب جرائم الاغتصاب الجماعي والذبح على الهوية. وما يزيد الطين بلة أن أطرافًا خارجية تمد هذه الميليشيا بالسلاح والمال. وعلى رأس هؤلاء الإمارات العربية المتحدة، التي رغم نفيها المستمر، توصف بأنها الداعم الأساسي للدعم السريع.

واشنطن حتى الآن امتنعت عن محاسبة أبوظبي، سواء في عهد بايدن أو ترامب. غير أن بعض الأصوات في الكونغرس بدأت تطالب بوقف مبيعات السلاح للإمارات بسبب دورها في تغذية الصراع. الضغط على الإمارات قد يكون مفتاحًا، فهي دولة شديدة الحساسية تجاه سمعتها الدولية، وقد أجبرها الضغط سابقًا على الانسحاب من حرب اليمن.

ما الذي يمكن لترامب فعله الآن؟ بإمكانه أن يوجه دعوة صريحة للإمارات لوقف دعمها للدعم السريع، أو أن يعيّن مبعوثًا خاصًا للسودان لمتابعة الأزمة بشكل مباشر. كما يستطيع أن يزيد التمويل لبرامج الدعم الشعبي السوداني، مثل “غرف الطوارئ” التي تُدير مطابخ جماعية لإطعام الجوعى.

في سبتمبر المقبل، سيجتمع قادة العالم في الأمم المتحدة، وكعادتهم سيكررون شعارات حول “جعل العالم أكثر أمانًا وإنسانية”. لكن الاختبار الحقيقي لمدى صدقهم لن يكون في الكلمات، بل في الأفعال تجاه مدينة الفاشر، التي تحاصرها قوات الدعم السريع وتواجه خطر المجاعة والإبادة الجماعية. يخشى مراقبون أن يؤدي سقوط الفاشر إلى مجازر واسعة النطاق كالتي ارتُكبت في مناطق أخرى.

نشرة Avaaz Sudan Dispatch نقلت عن أحد سكان الفاشر قوله: “نحن نموت جوعًا هنا. الجريمة ليست فقط مسؤولية الجنرالات، بل مسؤولية العالم بأسره: العرب، الاتحاد الأفريقي، أوروبا، المجتمع الدولي”.

وأضاف: “نعرف أن بإمكانهم مساعدتنا. لديهم طائرات لإسقاط المساعدات، لديهم الإمكانيات، لكنهم ببساطة اختاروا ألا يفعلوا شيئًا”.

 

——-

نيكولاس كريستوف

 صحفي أمريكي بارز وكاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز منذ 2001، ولد عام 1959 في ولاية أوريغون، عُرف بتغطيته الإنسانية من مناطق النزاعات والكوارث مثل دارفور والكونغو وميانمار، حاصل على جائزتي بوليتزر (1990 لتغطية أحداث تيانانمن، و2006 لتقاريره عن الإبادة في دارفور)، ألف عدة كتب مؤثرة مع زوجته شيريل وودَن مثل Half the Sky، ويُلقب بـ”ضمير الصحافة الأمريكية” لاهتمامه بقضايا حقوق الإنسان واللاجئين والفقر، كما تميز بممارسته للصحافة الميدانية في أخطر المناطق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى