المأساة المتكررة
مرة أخرى تطفو على سطح البحر جثث غارقة لتتصدر عناوين الأخبار. المأساة المتكررة ما زالت بلا حلول تلوح في الأفق، لكنها تظل في كل الأحوال أزمة معقدة تنطوي على مأساة إنسانية جديرة بالانتباه؛ فالفارين من جحيم الحرب إلى عباب البحر والمجهول كثيرا ما يفقدون حياتهم مخلفين في قلوب الأحبة ندوبا عظيمة وجروحا لا تبرأ، جراء نقص سبل النجاة ومناسيب الكرامة الإنسانية.
المؤكد أن الحديث عن الهجرة وارتكاب القوارب الموت لم يعد مجرد إحصاءات، إذ غدا في يومنا هذا سردية إنسانية مؤلمة ترويها جثامين الغرقى ممن تلفظهم الأمواج إلى الشواطئ؛ وحكايات تراجيدية لأسر تنتظر الغائبين، وأجساد ناجية تحمل جروحا غائرة لفرط الملح، الذي أضحى الشاهد الصامت على رحلة الموت طوعا وهربا وغرقا..!!
لكن اللافت في المأساة المتكررة هو ذلك التناقض الصارخ بين القوانين الدولية التي تكفل حق اللجوء والحماية، والواقع المرير الذي يواجهه المهاجرون، حيث يتم التعامل معهم كمخالفين للقانون بدلا من اعتبارهم ضحايا لكوارث ونزاعات سياسية واقتصادية لم يكونوا طرفا فيها. هذه المفارقة المأساوية جديرة بالالتقاط؛ إذ كيف يتحول الباحثون عن الأمان إلى هدف للعقاب بدلاً من أن يكونوا موضوعاً للرعاية؟
لا تقف مأساة المنكوبين عند حدود الغرق ولفظ أجسادهم في الشط؛ إذ أنها تبدأ أبعد من ذلك، من لحظات ما قبل الصعود إلى قوارب الموت. معاناة إنسانية قاسية يعيشها هؤلاء في مراكز الانتظار، واكتظاظ مع افتقار إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة. أما ما بعد النجاة فثمة اجراءات عقابية في الانتظار مع ندرة في الرعاية الطبية والنفسية اللازمة لعلاج صدمات لا تزول بزوال الموج وشيح الموت.
وحتى حال احتفت شطآن وأراضي المهجر الأوروبي باللاجئ فإنها لا تضن عليها بقسط ثالث من المعاناة وسط المحكات القضائية والعدلية بانتظار تقنين أوضاعه، وهي مسألة باتت دونها الكثير من القوانين وخرط القتاد.
والحال كذلك تبدو معالجة أزمات لجوء الكتلة العالمثالثية المبتلاة بالفقر والجوع والحروب، بحاجة إلى مقاربة شاملة تبدأ من معالجة الأسباب الجذرية للهجرة في بلدانهم الأصلية، مروراً بمراجعة السياسات الأوروبية في التعامل مع تدفقات الهجرة، ووصولاً إلى تعزيز آليات الحماية الدولية للاجئين والمهاجرين. فما يحدث يتجاوز كونه مجرد غرق مراكب، ليتعداها إلى ما يشبه توصيفه بغرق الإنسانية.
ومن نافلة القول أن استمرار هذه المآسي يعني أننا لم نستخلص بعد الدروس الكافية من الماضي، وأننا ما زلنا نتعامل مع الأعراض بعيداً عن العلة وأصل المرض، فهل آن آن الأوان للحيلولة دون المزيد من حالات الفقد والجراح التي لا تحتملها قلوب الأحبة؟