العودة بعد الحرب… امتحان الأخلاق قبل الإعمار
بقلم: طارق فرح
حدّثني من أثق في صدقه أنه ما إن وطئت قدماه أرض السودان، عائداً بعد أقل من ثلاث سنوات من حرب عبثية مزّقت البلاد والعباد، حتى فوجئ بصدمة تقصم الظهر: مؤجّره يطالبه بدفع إيجارات السنوات الماضية كاملة، وكأن الحرب لم تقع، وكأن نزوحه لم يكن قسرياً، وكأن تشريده لم يكن إلا نزوة شخصية!
ولم تكن حكايته فريدة، بل جزءاً من مشهد أوسع يعيشه آلاف العائدين إلى ديارهم وأعمالهم. عادوا مثقلين بذكريات النزوح، وخسارات لم تقتصر على البيوت والمتاع، بل امتدت إلى الأرواح والعلاقات والأحلام. عادوا بقلوب متهالكة، لكنها ما زالت تتعلق بخيط أمل أن يجدوا شيئاً من الأمن والسكينة. غير أن الواقع استقبلهم بوجه أكثر قسوة: فواتير كهرباء ومياه متراكمة لسنوات الحرب، إيجارات مضاعفة، ضرائب وغرامات حكومية على محلات أُغلقت قسراً تحت لهيب الرصاص. وكأن الدولة نفسها انضمت إلى جوقة الجباية، تتعامل مع أصحاب الأعمال كما لو كانوا يعيشون في رخاء، لا أنهم كانوا يقتاتون على النزوح والخذلان والجوع.
هذا المشهد ليس مجرد واقعة اجتماعية عابرة؛ إنه ناقوس خطر يعلن عن انهيار في منظومة الأخلاق. فالحروب لا تمتحن فقط قوة الجيوش، بل تمتحن قبل كل شيء الضمير الإنساني. إما أن تسمو القيم أو تسقط، إما أن يثبت معدن الناس أو ينكشف زيفه. والسودان، الذي عُرف عبر تاريخه بروح التكافل والتراحم، يقف اليوم أمام مفترق مصيري: إما أن يستعيد تلك الروح النبيلة، أو يتركها تتآكل أمام أنياب الجشع والأنانية.
قال الله تعالى:
﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]
فالعفو في مثل هذه اللحظات ليس ضعفاً ولا عجزاً عن تحصيل الحقوق، بل هو سموّ أخلاقي وإيمان عميق بأن ما يُترك لله لا يضيع عنده. أما أن تتحوّل العودة إلى محطة ابتزاز جديدة للنازحين والمشردين، فهو ظلم مضاعف على من فقدوا بيوتهم وأمنهم وكرامتهم.
لقد عبّر الشعراء قديماً عن أن بقاء الأمم رهين ببقاء الأخلاق:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
وكأن هذه الأبيات كُتبت اليوم لسوداننا المكلوم. فما جدوى أن نعيد بناء بيوت مهدمة إذا كانت النفوس قد تهدمت؟ وما قيمة الطوب والحجر إذا غابت العدالة والرحمة؟ البناء الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان، من قلب يعرف أن جاره في ضيق، وأن النازح في محنة، وأن العون لا يحتاج إلى قانون، بل إلى مروءة صافية.
إن العودة بعد الحرب ليست عودة إلى بيوت فقط، بل عودة إلى القيم. ليست مجرد حجارة تعاد إلى أماكنها، بل ثقة يجب أن تُرمم بين الناس، وأمان ينبغي أن يُزرع من جديد. فإذا أخفقنا في هذا الامتحان، فإن ما نسميه إعماراً لن يكون سوى إعادة إنتاج للخراب في ثوب جديد.
الامتحان اليوم امتحان شامل: امتحان للسلطة التي عليها أن تصدر قوانين استثنائية تراعي ظروف المواطنين وتخفف عنهم آثار السنوات العجاف، لا أن تعاملهم كما لو كانوا في بحبوحة. امتحان للمجتمع الذي عليه أن يستعيد فضيلة المؤازرة والرحمة، ويميز بين الحق المشروع والجشع المذموم. امتحان للفرد نفسه: فإن غلب عليه حب المال، غابت عنه إنسانيته؛ وإن غلبت الرحمة، ارتقى بنفسه فوق الجراح.
العفو قوة لا وهن، والتسامح إيمان لا ضعف. أما أن يتحول بعض الناس، ومعهم أجهزة الدولة، إلى محصّلين لسنوات الجوع والفقد، فذلك خزي وإجحاف لا يليق إلا بسلطة ضاقت إنسانيتها، ومجتمع نسي جذوره. فأي مروءة هذه التي تثقل كاهل المنهكين؟ وأي تضامن هذا الذي لا يتجاوز الشعارات بينما يُترك المواطن وحده في مواجهة الدمار؟
إن امتحان السودان اليوم ليس امتحان إعمار طرق وجسور ومبانٍ، بل امتحان أخلاق. فإن سقطنا فيه، فلا عمران سيبقى، ولا وطن سيقوم، فالوطن ـ كما قال محمد المكي إبراهيم ـ إن لم يكن هو أخلاقنا، لم نكن نحن أوطانًا.