الرباعية في مواجهة أزمة السودان: مقاربات أمنية
د. عصام الدين عباس
أصدرت الرباعية – التي تضم الولايات المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – بيانًا مشتركًا في 12 سبتمبر 2025 بعنوان “البيان المشترك بشأن استعادة السلام والأمن في السودان”. تناول البيان الصراع الدائر في السودان بين الجيش وحلفائه من جهة والدعم السريع ومناصريه من جهة أخرى، وهو صراع تصاعد حتى أصبح أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث شرد الملايين وارتفع معدل خطر زعزعة استقرار المنطقة. أكد بيان الرباعية على مبادئ مثل سيادة السودان ووحدة أراضيه، عدم وجود حل عسكري حاسم، الحاجة إلى وصول إنساني دون عوائق، عملية انتقالية شاملة متحررة من سيطرة الأطراف المتحاربة، وإنهاء الدعم العسكري الخارجي لطرفي الصراع. حذر البيان صراحة من تأثير “الجماعات المتطرفة العنيفة المرتبطة أو المتحالفة بوضوح مع جماعة الإخوان المسلمين”، التي ساهمت أدوارها في زعزعة الاستقرار وتأجيج العنف الإقليمي من خلال الأنشطة العابرة للحدود من الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي تستغل الفراغ الذي تسبب فيه الصراع، ومخاطر أمن البحر الأحمر وتهديد طرق التجارة العالمية، واحتمال تفاقم الأزمة إلى عدم استقرار أوسع. حدد البيان خطوات عملية شملت هدنة إنسانية تؤدي إلى وقف إطلاق نار دائم وعملية انتقالية مدتها تسعة أشهر، مع التزام الرباعية بالتنسيق مع الشركاء الأفارقة والعرب والدوليين.
في هذا المقال أتناول بالتحليل قضايا الأمن والهموم الإقليمية التي يمكن قراءتها من بين سطور البيان، لا سيما تهديد الإسلاميين المتطرفين (مثل الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين وأطراف محتملة مثل داعش أو القاعدة وحركات مسلحة ذات أيديولوجيا إسلاموية جهادية)، الذين يمكن أن يستغلوا فوضى السودان للتجنيد وتهريب الأسلحة والهجمات، مما يزيد من آثار التداعيات.
قضايا الأمن والهموم الإقليمية لدول الرباعية
الولايات المتحدة
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن مكافحة الإرهاب يمثل عصب اهتماماتها وترى في صراع السودان المغذي الرئيس لذلك، حيث يمكن للإسلاميين المتطرفين استغلال الفراغ الناتج من العنف لإقامة ملاذات آمنة مشابهة لتلك الموجودة في الصومال أو اليمن. لا شك أن أمن منطقة البحر الأحمر يمثل أولوية أيضًا، حيث يمكن أن تهدد الاضطرابات خطوط الشحن الحيوية للنفط والبضائع، مما يؤثر على المصالح الاقتصادية الأمريكية والتحالفات. ترى الولايات المتحدة أن الدعم الخارجي لطرفي الحرب من دول مثل روسيا أو إيران أو عبر وكلاء يطيل أمد الصراع، مما يسمح للجماعات الإسلامية بالتطور وسط الفوضى. لا يمكن بأية حال تجاوز المصالح الأمنية الإسرائيلية التي تزداد بتوافق مع حالة السيولة الأمنية في هذه المنطقة الحساسة وإمكانية نشوء حلف إسلاموي برعاية إيرانية يربط متطرفي السودان بجماعة الحوثي وحركة حماس في فلسطين. دعوة البيان لإنهاء صراع السودان تتماشى مع أهداف الولايات المتحدة لعزل المتطرفين ومنع السودان من أن يصبح مركزًا للتهديدات العابرة للحدود.
مصر
عدم استقرار السودان يقود مصر لمواجهة مخاطر أمنية حدودية، مع أكثر من مليون لاجئ يشكلون ضغطًا على الموارد الشحيحة ويوفرون غطاء يمكن الإسلاميين من اختراق الحدود المشتركة. سلط البيان الضوء على دور جماعة الإخوان المسلمين كتهديد مباشر لمصر التي قامت بتصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية بعد انقلاب 2013. غير مستبعد قيام المسلحين المرتبطين بالإخوان في السودان بدعم العمل الإرهابي في سيناء أو الصحراء الغربية. قضية أخرى لا يمكن تجاهلها وهي أمن مياه النيل، حيث يضعف الصراع موقف مصر التفاوضي بخصوص سد النهضة الإثيوبي وإدارة تدفقات المياه من الهضبة الإثيوبية، مما يفاقم انعدام الأمن الغذائي. إقليميًا، تخشى مصر من التداعيات إلى ليبيا وتشاد، حيث يمكن للجماعات الجهادية أن تتحالف مع الشبكات السودانية، مما يهدد جهود القاهرة لمكافحة الإرهاب. تركيز الرباعية على انتقال مدني يهدف إلى منع سيطرة الإسلاميين على حكومة السودان، مع الحفاظ على منع وجود جار معادٍ متأثر بالإخوان.
المملكة العربية السعودية
تركز هموم المملكة العربية السعودية على أمن البحر الأحمر، حيث يمكن أن تؤدي الاضطرابات وعلى غرار الحوثيين إلى مهاجمة مواعين الشحن أو الموانئ من قبل جماعة الاخوان المسلمين المتطرفة السودانية. يتماشى موقف البيان المناهض لهذه الجماعة مع سياسة الرياض الرافضة لهم، التي تعتبرهم عدوًا أيديولوجيا أثار الاضطرابات في مصر وليبيا وغزة – يمكن أن يصدر فوضى السودان إلى شبه الجزيرة العربية. قضية أخرى لا يمكن إغفالها وهي أن الدعم العسكري الإيراني يعزز بشكل غير مباشر الميليشيات الشيعية أو المتطرفين السنة الذين يهددون حدود السعودية. إقليميًا، يمكن أن تزعزع التداعيات الإنسانية استقرار مجلس التعاون الخليجي من خلال زيادة ضغوط اللاجئين وتجنيد الجهاديين في اليمن أو الصومال، مما يقوض أهداف رؤية 2030 للاستقرار. لذلك فإن مقترح الرباعية يهدف إلى عزل هذه التهديدات، مع ضمان أن يحد انتقال السودان من التوسع الإسلاموي دون المساس بجهود الوساطة السعودية.
الإمارات العربية المتحدة
ترى الإمارات صراع السودان من خلال عدسة النفوذ في القرن الأفريقي، حيث يمكن للإسلاميين المتطرفين تقويض استثمارات أبوظبي في الموانئ وعمليات مكافحة القرصنة في البحر الأحمر. على الرغم من الاتهامات بدعم الإمارات لقوات الدعم السريع، فإن مطالبة البيان بوقف الدعم الخارجي تشير إلى تحول نحو خفض التصعيد لتجنب اتهامات بإطالة أمد الحرب التي تفيد المتطرفين. تشكل الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين خطرًا أيديولوجيًا، حيث تتحدى نظام الحكم وتجتهد في تشويه صورة الإمارات كدولة متطورة في الإقليم تستند بقوة إلى نماذج الحوكمة والحكم الرشيد. إقليميًا، قد يؤدي الصراع السوداني إلى توتر في القرن الأفريقي وإشعال نزاعات عرقية يستغلها أنصار الإسلام السياسي، مما يهدد دور الإمارات في المنطقة ومشروعاتها الاقتصادية.
قضايا الأمن للدول الإقليمية والدولية الأخرى
الدول الإقليمية (القرن الأفريقي وشمال إفريقيا والدول العربية)
بالنسبة للدول المجاورة مثل إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد، تعزز تحذيرات البيان مخاوف التطرف عبر الحدود. يمكن أن تصبح مناطق الصراع في السودان منصات انطلاق لأنشطة إرهابية متطرفة، مرتبطة بحركة الشباب في الصومال أو بوكو حرام في الساحل، مما يفاقم أزمات هذه الدول. إثيوبيا، تخشي من عودة الصراع العرقي في أقاليمها المضطربة. تواجه ليبيا وتونس في شمال إفريقيا عدم استقرار متزايد بسبب الهجرة ونشاط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي مع استخدام المتطرفين للسودان كمركز لنقل الأسلحة والمقاتلين، مما قد يعيد إشعال الفوضى. تشترك الدول العربية مثل الأردن والبحرين في هموم الرباعية المناهضة للإخوان المسلمين، وترى اضطرابات السودان كخطر يمكن أن يؤدي إلى تهديد أمن البحر الأحمر.
الدول والكيانات الدولية
على الصعيد العالمي، فإن دولًا أوروبية (مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا) تعاني من آثار الهجرة والإرهاب. يمكن للفوضى في السودان أن تدفع بتدفقات غير نظامية إلى البحر الأبيض المتوسط، مما يثقل كاهل حدود الاتحاد الأوروبي ويوفر تمويلًا للإرهاب عبر التهريب. الصين، التي لها استثمارات كبيرة في النفط والبنية التحتية الأفريقية، تخشى من تمدد الصراع، مما يعطل مبادرة الحزام والطريق. الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي كأكبر المهتمين بالأزمة الإنسانية (25 مليون جائع) فإن الصراع يثقل كاهل قدراتهم، مما يعرض لمخاطر جمة ربما يستغلها المتطرفون لإشعال المنطقة. بالنسبة للجهات الفاعلة الدولية الأخرى مثل دول الرباعية الهندو-باسيفيكية التي من بين أهدافها تعزيز الأمن البحري وحماية حرية الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ والتعاون في سلاسل إمداد الطاقة، يهدد عدم استقرار البحر الأحمر في السودان طرق التجارة العالمية.
تقييم المخاطر للمستوى الأوروبي
الخطر الإرهابي (من متوسط إلى مرتفع): استمرار الحرب دون أفق للحل يحول السودان إلى ساحة مفتوحة للجماعات الإسلاموية المتطرفة، ما يعني انتقال السلاح والخبرات القتالية بسهولة عبر شبكات إقليمية. فالمقاتلون المرتزقة الذين يجري استقدامهم أو تهريبهم قد يعيدون تدوير خبراتهم في مناطق أخرى مثل الساحل الإفريقي أو سيناء أو القرن الإفريقي. الأخطر أن يتحول السودان إلى بؤرة لتدريب وتصدير الإرهاب، على غرار النموذج الأفغاني في التسعينيات، بما يربط الجماعات المحلية (المتحالفة مع الإخوان أو غيرها) بشبكات دولية مثل داعش والقاعدة.
خطر الهجرة غير النظامية (مرتفع): الحرب دفعت بملايين السودانيين للنزوح الداخلي والخارجي، ومع تدهور الأوضاع الإنسانية وغياب الحلول السياسية، تتزايد الضغوط على مسارات الهجرة عبر ليبيا والبحر المتوسط. هذا التدفق الهائل لا يمثل فقط عبئًا على دول جنوب أوروبا (إيطاليا، اليونان، إسبانيا)، بل يوفر كذلك غطاءً للجماعات المتطرفة لاختراق قوافل المهاجرين وتهريب مقاتلين أو عناصر لوجستية إلى أوروبا. وبذلك، تتحول الهجرة غير النظامية إلى قناة مزدوجة للأزمة الإنسانية ولتعزيز الخطر الأمني.
الخطر الاقتصادي/التجاري (مرتفع): البحر الأحمر وباب المندب يمثلان شريانًا رئيسيًا للتجارة العالمية، حيث تمر عبرهما نسبة معتبرة من صادرات النفط والسلع. أي اضطراب أمني ناجم عن نشاط الجماعات الإسلاموية في السودان (على غرار الحوثيين في اليمن) سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين البحري، ما ينعكس مباشرة على أسعار الطاقة والسلع في الأسواق العالمية. وإذا استمرت هذه الاضطرابات، فقد تتحول إلى أزمة تضخمية كارثية تضرب الاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء، وتزيد من هشاشة سلاسل الإمداد الدولية.
السيطرة على خطر التطرف الإسلاموي
إن السيطرة على خطر الجماعات الإسلاموية المتطرفة لا يمكن أن تنفصل عن الهدف الجوهري المتمثل في وقف الحرب وتحقيق الاستقرار في السودان. فاستمرار الصراع يفتح الباب واسعًا أمام تلك الجماعات لتجنيد الشباب، وتهريب السلاح، وخلق ملاذات آمنة تهدد الإقليم بأكمله. ومن هنا تبرز أهمية التزام الرباعية، كما جاء في بيانها، بوقف الدعم العسكري الخارجي، والدفع نحو هدنة إنسانية تتطور إلى وقف إطلاق نار دائم. غير أن ذلك لا يكفي وحده، إذ يتطلب الأمر أيضًا:
تجفيف منابع التمويل والتسليح عبر تعاون استخباري وأمني إقليمي ودولي.
تحصين المجتمعات المحلية من خلال التعليم، وفرص العمل، وبرامج إعادة دمج المقاتلين السابقين، بما يضعف قدرة الجماعات على التجنيد.
محاصرة الخطاب الإسلاموي الراديكالي في الإعلام ومنصات التواصل، مقابل تعزيز خطاب بديل يقوم على قيم الاعتدال والتعايش.
إن نجاح العملية الانتقالية المدنية التي شدد عليها بيان الرباعية يمثل في ذاته خط الدفاع الأهم ضد عودة الإسلاميين المسلحين، وضمانة لتثبيت السودان على طريق السلام والاستقرار.
ختامًا، تؤكد قراءة البيان المشترك للرباعية أن صراع السودان لم يعد شأناً داخلياً محصوراً بحدوده، بل تحول إلى بؤرة جيوسياسية تتقاطع عندها مصالح القوى الإقليمية والدولية. فبينما يشكل التهديد الإسلاموي المتطرف المحرك الأبرز لمخاوف الأمن القومي لدى الأطراف المختلفة، تتشابك قضايا أخرى لا تقل خطورة مثل أمن البحر الأحمر، مستقبل الطاقة وسلاسل الإمداد، وضغوط الهجرة. إن المواقف المعلنة للرباعية تكشف عن إدراك متزايد بأن استمرار الحرب في السودان سيفتح الباب أمام فراغ استراتيجي خطير يهدد المنطقة والعالم، وأن الحل يمر عبر عملية انتقالية مدنية شاملة تقطع الطريق أمام عودة الإسلاميين المسلحين وتعيد للسودان مكانته كدولة مستقرة. وعليه، فإن نجاح الرباعية في تحويل هذا البيان إلى التزامات عملية سيُعد اختباراً حقيقياً لمدى قدرتها على توحيد الجهود لاحتواء أخطر أزمات القرن الأفريقي وصون الاستقرار الدولي.