الفاشر على شفير الكارثة تحلم بحياة

طاهر المعتصم

بقلم: طاهر المعتصم

بعد أكثر من خمسمئة يوم من الحصار والقتال المتواصل، تقف مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، على حافة انهيار إنساني وعسكري غير مسبوق. تقارير الميدان وصور الأقمار الصناعية التي نشرها (مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل) منتصف سبتمبر الجاري، تؤكد أن قوات الدعم السريع أحكمت قبضتها على (معسكر أبو شوك للنازحين) ، وبنت حواجز ترابية حول المدينة، ونفّذت أكثر من 240 هجوماً منذ بداية الصراع. في الوقت ذاته، تعكس تصريحات الوزير السابق محمد بشير أبو نمو على صفحته في “فيسبوك” حجم القلق من أن سقوط الفاشر سيعني كارثة وطنية شاملة. أما بيان الرباعية الدولية (أمريكا، السعودية، الإمارات، مصر) فقد دعا إلى هدنة إنسانية، لكنّ فجوة التنفيذ على الأرض ما تزال قائمة.

وفق تقديرات الأمم المتحدة واليونيسف، يعيش أكثر من نصف مليون مدني داخل الفاشر تحت حصار خانق يمنع الغذاء والدواء من الدخول، فيما يفتقد عشرات الآلاف من النازحين مأوى ومياه نظيفة ورعاية صحية. صور الأقمار الصناعية التي حلّلها فريق (ييل) أظهرت دماراً واسعاً في الأحياء السكنية وضربات متكررة على الأسواق والمستشفيات، بينما وُثّق استخدام الطائرات المسيّرة والقصف المدفعي في محيط معسكرات (أبو شوك وزمزم)

تصريحات أبو نمو جاءت أكثر صراحة، إذ أقرّ بأن الوضع الإنساني “صعب للغاية”، وأن المدنيين “يعيشون تحت الأشجار بلا مأوى”، مؤكداً أن المطلوب الدفع بمزيد من القوات البرية لمحاولة كسر الحصار. هذا الخطاب يعكس إدراكاً داخل الحكومة بأن سقوط الفاشر قد يقلب موازين الحرب في دارفور وربما في السودان كله.

في السياق نفسه خاطب رئيس الوزراء كامل إدريس اجتماع اللجنة الوطنية لفك حصار دارفور، إدريس ألقى باللوم على المجتمع الدولي محملًا إياه مسؤولية ما يحدث في الفاشر.

الغريب أنه في 12 سبتمبر، أصدرت الرباعية الدولية بياناً يقترح هدنة إنسانية لثلاثة أشهر، والسماح بفك الحصار وفتح ممرات إنسانية وتوصيل مساعدات، فهل لم يسمع رئيس الوزراء بالأمر.

في تقديري نحن أمام عدد من السيناريوهات في أزمة الفاشر:

أولها أن الجيش السوداني وحلفاءه يحاولون كسر الحصار عبر هجوم بري واسع. في حال النجاح، قد يُفتح ممر إنساني ويستعيد المدنيون بعض الأمل كما حدث سابقًا في بعض المدن، لكن الثمن سيكون مرتفعاً من حيث الخسائر البشرية وتدمير ما تبقّى من بنية تحتية، كما أن المسافات الشاسعة والمفتوحة تشكل تحديًا.

ثانيًا سقوط الفاشر فعلياً بيد الدعم السريع وهو السيناريو الأكثر خطورة. إذا سيطر الدعم السريع على المدينة بعد أكثر من 240 هجوماً وفقدان أبرز القادة القبليين المنضمين له، فإن النتيجة المتوقعة ليست مجرد سيطرة عسكرية، بل (مجازر وانتقامات قبلية واسعة النطاق)، فتجربة مدينة (الجنينة في غرب دارفور) عام 2023 ما تزال شاخصة في الأذهان. حينها، تحوّل الصراع إلى حملات قتل جماعية وتهجير قسري استهدفت جماعات عرقية بعينها، لا سيما المساليت. اليوم، يخشى أن تتكرر الكارثة نفسها في الفاشر، خصوصاً مع ارتفاع منسوب الثأر بعد مقتل قيادات قبلية بارزة تتبع للدعم السريع على أسوار المدينة وعدم امتلاك القوات شبه العسكرية لقيادة تحكم وسيطرة.

في حال اجتياح الدعم السريع للفاشر، قد تشهد المخيمات (موجة قتل منظم) تستهدف المدنيين، يليها (تطهير عرقي ممنهج)، لإجبار السكان على النزوح خارج الفاشر. القيود المفروضة على الخروج والحواجز الترابية قد تجعل الرحيل رحلة موت بحد ذاتها. أما من ينجون، فسيواجهون نزوحاً قسرياً عبر الحدود، يفتح جرحاً إنسانياً جديداً في المنطقة.

ثالث السيناريوهات هدنة مؤقتة بضغط دولي قد تقود مبادرة الرباعية إلى هدنة إنسانية تسمح بإدخال الغذاء والدواء، وفتح مسارات آمنة للمدنيين، وانسياب المساعدات الإنسانية، هذا السيناريو لم يرفضه إلا بعض أطراف جماعة الإخوان المسلمين جناح (كرتي هارون)، بينما عديد من الأطراف أيدته أو قبلته ضمنيًا، هل في مقدرة قيادة الجيش السوداني، عصم دماء أهل الفاشر وإنقاذ حياتهم، ربما يكون هذا هو المخرج الآمن.

أخلص إلى أن الفاشر اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، إما أن تتوفر إرادة سودانية مع تحقق ضغط دولي حقيقي لفتح ممرات إنسانية وتثبيت هدنة تفضي إلى تسوية، وإما أن تسقط المدينة في قبضة الدعم السريع لتدخل دارفور في فصل جديد من المآسي، بدأ فعليًا قبل 22 سنة، إن تحذيرات جامعة ييل وحديث أبو نمو وبيان الرباعية كلها ترسم لوحة قاتمة لكنها واضحة، الوقت ينفد، والفاشر قد تتحول إلى الجنينة جديدة إذا لم يحدث اختراق الآن.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى