كادوقلي تُنهب علنًا.. أدوية الفقراء ولقمة الجوعى في مهب الفساد

تحقيق: جوليوس الجيل

أظهرت السلطات في ولاية جنوب كردفان قرار وقف عمل المنظمات الإنسانية على أنه إجراء تنظيمي، لكنه في الواقع عبارة عن إزاحة عقبة كانت تقف أمام تلاعب وتجاوزات وفساد يُنفذ بطريقة ممنهجة.

يوضح الهجوم الذي شُن على المنظمات قبل قرار إيقاف أنشطتها أن السلطات كانت تبيت النية لعمليات الفساد اللاحقة التي شملت حتى وزارة الصحة، وفقًا لشهادات مسؤولين سابقين وموظفين ومراقبين وعناصر في القوات النظامية، وبدأ العمل في التحقيق منذ يونيو حتى منتصف سبتمبر.

حملة استباقية

أعلن مفوض العون الإنساني في جنوب كردفان فضل الله عبد القادر أبو كندي في 24 أبريل المنصرم إيقاف أنشطة نحو ثلاثين منظمة إنسانية، من بينها منظمات دولية معروفة مثل المجلس النرويجي للاجئين، ومنظمة الرؤية العالمية، ومنظمة البحث عن قواسم مشتركة، إضافة إلى مبادرات تدعم التحول الديمقراطي وأخرى تنشط في الغذاء للجوعى مثل غرف الطوارئ والتكايا.

ونشطت السلطات، قبل صدور هذا القرار، في تنظيم حملة ضد المنظمات استخدمت فيها المنابر العامة بما في ذلك دُور العبادة، حيث اتهم خطيب المسجد الكبير “العتيق” في ثلاث خطب على الأقل المنظمات بتنفيذ أجندة خارجية والعمل على نشر الديانة المسيحية.

وبدأت مؤشرات الهجوم المنظم عندما أقدم كافي طيار، وهو زعيم مجموعة مسلحة تقاتل مع الجيش، محاولة الاستيلاء على سيارة تتبع لمنظمة “المجلس النرويجي” في فبراير 2025، حيث نزع منها الشعار وسط السوق حينما كانت المنظمة تمارس مهامها مع أصحاب المتاجر، مما أدى إلى تعليق أنشطتها مؤقتًا.

وأعد جهاز المخابرات العامة بعد تولي العميد أحمد سالم منصب مديره في جنوب كردفان في 3 نوفمبر 2024، قائمة بمنظمات اتُّهمت بالعمالة وخدمة أجندات أجنبية وفقًا لمصدر أمني.

وقال المصدر إن القائمة شملت منظمة “الرؤية العالمية” و”البحث عن قواسم مشتركة” وهي منظمة يُدير مكتبها في كادوقلي أفراد محسوبون على حزب الأمة القومي، إضافة إلى NRC، قبل أن يكتمل الهجوم على هذه المنظمات باتهامها بنشر تقارير ضد الحكومة بواسطة خطباء المساجد.

وقال موظف في المجلس النرويجي للاجئين إن السبب الرئيسي وراء إيقاف المنظمات كان رغبة السلطات في السيطرة على عمليات التحويلات المالية والتوزيع، وأن تتم هذه العمليات عبر أجهزتها ومؤسساتها، وهو ما رفضته المنظمات، فقامت الحكومة بإصدار قرار بالإيقاف.

وأرجع مصدر آخر سبب وقف المنظمات إلى سعي السلطات الأمنية لإدخال عناصر تابعة لها من المحسوبين على الإسلاميين “النظام السابق” إلى وظائف في هذه المنظمات، لكنها رفضت هذا التدخل.

فساد قديم

تتبع التحقيق عمليات فساد سابقة في وزارة الصحة قبل تولي الوزيرة الحالية جواهر أحمد مهام المنصب في 6 مايو 2024، حيث عُينت وزيرة بناءً على تمثيل الحركة الشعبية ــ شمال بقيادة مالك عقار على بروتوكول تقاسم السلطة الوارد في اتفاق السلام، وقبل ذلك كانت وزارة الصحة تُدار بواسطة المدير العام الوزيرة الدكتورة بتول.

وقال الموظف بوزارة الصحة “ح. ع” إن السلطات قبل تولي جواهر مهامها أجرت مراجعة داخلية حول فقدان كميات من الأدوية من داخل المخازن التي كان مسؤولًا عنها محمد حامد، حيث خلصت المراجعة إلى إعفائه من موقعه ونقله إلى قسم البنية التحتية، فيما تم تعيين أمين مخازن جديد.

وأوضح أن الأدوية تسربت إلى الصيدليات بطريقة غير رسمية، مشيرًا إلى أن عملية التسرب شملت نقل أدوية من مخزن في مستشفى القابلات تحت إشراف موظفة بالمستشفى، فيما أكد مصدر طبي، تسرب الأدوية مضيفا أنها تحدث في ساعات الليل بين الثامنة والتاسعة ليلًا.

استمرار التجاوزات

وكشف المصدر نفسه عن بيع الوقود المخصص للمولد الكهربائي الخاص بالمستشفى حيث اكتفت الإدارة بتشغيله فقط عند الطوارئ القصوى بدلًا من تشغيل المولد بكامل طاقته، وذلك من أجل بيع الوقود في السوق السوداء.

وبلغ الأمر بإدارة المستشفى المرجعي، وفقًا لمصدر، إلى فرض ضرائب تصل إلى 5 آلاف جنيه على كل بائعة شاي في محيط المرفق مقابل السماح لهن بالعمل، حيث يقوم عامل في المشفى بتنظيم عمل البائعات وجني الأموال لصالح الإدارة.

ورصد التحقيق، تسرب البسكويت العلاجي الجاهز للاستخدام الذي يُعطى للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية مجانًا إلى الأسواق، حيث شوهدت سيدتان في أحياء الذندية وكليمو تقومان ببيع قطعة البسكويت الواحدة بمبلغ 800 جنيه.

تورط الوزيرة في نهب أموال الغلابة

كان المجلس النرويجي للاجئين قبل قرار تعليق أنشطته من ضمن منظمات أخرى، تعمل في مجالات متعددة من بينها الصحة والتعليم، لكن في أعقاب تدهور الوضع الأمني والإنساني في كادوقلي واتساع رقعة الحرب في المناطق المحيطة، اضطرت إلى تحويل كامل تدخلاتها إلى المجال الإنساني، نظرًا لتصاعد الحاجة الإنسانية وتعثر إدخال الإمدادات الإغاثية، بعد تعرض كادوقلي لعزلة تامة بسبب الحصار عليها.

ويفرض تحالف يضم قوات الدعم السريع والحركة الشعبية ــ شمال بقيادة عبد العزيز الحلو حصارًا خانقًا على الدلنج وكادوقلي، حيث يعترضان طرق الإمداد ويمنعان وصول السلع والأدوية إلى المدينتين.

وبدأ المجلس النرويجي في ظل اشتداد الأزمة في تنفيذ مشروع منح مالية كبديل عن برامجه السابقة، حيث خصص مبلغ 840 ألف جنيه لكل فرد شهريًا،

وقامت المنظمة بإنشاء منافذ محددة داخل السوق بالتنسيق مع عدد من تجار يستطيعون توفير السلع، حيث يأخذ المستفيدون بطاقاتهم إلى هذه المنافذ لأخذ سلع ومواد غذائية بقيمة الحصة المخصصة البالغة 840 ألف جنيه.

وقال موظفون في المنظمة، إن السلطات في الولاية وجهتهم إلى هذا النظام.

ومع تمدد أزمة النقد في كل مدن السودان بدأ التلاعب بين التاجر الذي يمثل منفذ البيع وصاحب البطاقة، ذلك خلال استبدال أي سلعة بقيمتها نقدًا حيث يقوم التاجر بإعادة شراء السلعة من المواطن مقابل هامش ربح للتاجر، ويتم خصم نسبة متفق عليها بين التاجر والمواطن.

وكشف الموظف “م. ت”، عن ضغوط مارستها وزيرة الصحة على المنظمة لتحصل على 50 بطاقة شهريًا، حيث حصلت على نسبة 50% من قيمة كل بطاقة عبر التاجر منيب الذي يقوم بإعطاء المواطن سلعًا بنصف قيمة البطاقة ويذهب النصف الآخر لحساب الوزيرة.

بما يُشبه النهب

لم تكتفِ وزيرة الصحة بأخذ أموال الفئات الأكثر احتياجًا، بل وصل بها الأمر إلى سحب أدوية من مركز صحي مرتا بطريقة أقرب إلى النهب.

وأنشأت الأمم المتحدة في بلدة مرتا الواقعة على بعد 30 كيلومترًا من مدينة كادوقلي، مركزًا صحيًا لتغطية قرى منطقة مرتا والشعير والمناطق الريفية المحيطة بها، قبل أن تقوم بمنح إدارته إلى “الرؤية العالمية” التي قامت بتعيين فنيي مختبر، مساعدين طبيين، معاونين صحيين، وتقنيين لتشغيل المعمل.

وقدمت المنظمة دعمًا لصيدلية المركز الذي يشرف عليه مساعد طبي إلى جانب طبيب مختبر وصيدلي بكميات من الأدوية، بينها أدوية لأمراض مزمنة ومحاليل مخبرية.

وعند وصول الأدوية إلى المركز، شكلت وزيرة الصحة لجنة برئاستها، حيث أصدرت اللجنة تقريرًا خلص إلى أن الأدوية المخصصة للأمراض المزمنة مثل السكري والضغط، لا يجوز صرفها عبر مساعد طبي، بحجة أن ذلك يتطلب إشراف طبيب اختصاصي رغم أن السياسة الصحية العامة للدولة تسمح لأي مريض مزمن بصرف أدويته في أي مركز صحي طالما يحمل دفترًا طبيًا يحتوي على بيانات علاجه.

وقال المصدر “ح. م” إن اللجنة قررت سحب الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة من المركز بعد أسبوع، لكن الوزيرة عادت إلى المركز في اليوم التالي من صدور التقرير وسحبت الأدوية بنفسها بما في ذلك أدوية أخرى لم تكن مشمولة بقرار السحب.

وأوضح أن الأدوية التي سحبتها الوزيرة لم تُسلم إلى مخازن وزارة الصحة ولم تُقيد في السجلات الرسمية، بل جرى تخزينها في منزل الوزيرة بحي البان جديد.

ويبدو أن سابقة الوزيرة في نهب الأدوية أغرت مسؤولًا بوزارة الصحة بأخذ كميات من أدوية من مخازن منظمة فيالق الطبية، حيث خزنها في منزله قبل أن يقوم بتسريبها إلى السوق.

وفي 31 مايو 2025 أعلن المدير القطري لمنظمة فيالق الطبية إغلاق مكتب المنظمة بكادوقلي، بعد أن دعم أكثر من عشرة مراكز صحية.

وأوضح مصدر أن جهاز المخابرات العامة احتجز صاحب صيدلية عُرضت فيها الأدوية المنهوبة لمدة 7 أيام، حيث أفاد بأن الأدوية وصلته بواسطة عنصر في الشرطة فُصل من وظيفته لاحقًا.

وإزاء هذا الفساد، لم تملك وزيرة الصحة غير تهديد الموظفين بالتسريح حال كشفوا أي تجاوزات، وذلك أثناء حديثها في احتفال معايدة نظمته وزارة الصحة بمناسبة عيد الفطر بإدارة الرعاية الصحية الأولية بكادوقلي في 6 أبريل 2025، حيث جاء تهديد الوزيرة بعد تفاعل موظفين مع معلومات منشورة في مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى شبهة فساد بمشروعات تغذية الأطفال.

 

فساد النفوذ

تولى شقيق وزيرة الصحة محمد حافظ المعروف بلقب “بوري” مهمة صرف رواتب العاملين في مستشفى كادوقلي، رغم أن أغلب وزارات حكومة الولاية تصرف مرتبات العاملين والموظفين عبر تطبيق بنكك الخاص ببنك الخرطوم، وفقًا لإفادات عاملين تحدثوا إلينا.

وتطابقت إفادات العاملين بأن بوري يخصم مبلغ 500 جنيه من راتب كل موظف وعامل في المستشفى، بحجة أنها رسوم تغطية خدمة الإنترنت عبر شبكة “ستارلينك”، باستثناء أفراد اللجنة الأمنية العاملين داخل المشفى بعد اعتراضهم على هذه الممارسة بشكل حاسم ورفضوا الخضوع لها.

وحاولت الوزيرة تمليك صيدلية إلى شقيقها الذي يعمل سائقًا لها، حيث سعت إلى الاستيلاء على مقر صيدلية قديم يُعرف باسم “النهضة”، يملكه شخص يدعى محمد الصادق.

وتطور النزاع بين الطرفين، ما دفع محمد الصادق إلى الاستعانة بمحامٍ للدفاع، لكن غياب القاضي أدى إلى تباطؤ الإجراءات القانونية، ومع مرور الوقت، أصبح محمد الصادق يتردد على المحل بشكل غير منتظم، وفقًا لإفادة مقربين من محمد الصادق.

وقال أحد المصادر المقربة إن محمد الصادق استأجر موقع صيدلية النهضة من وزارة الصحة عبر عقد طويل الأمد، حيث خصصته لبيع المعدات والمستهلكات الطبية أيضًا، لكن الوزيرة حاولت أخذ الموقع لصالح شقيقها مما أجبر الصادق على إغلاق الصيدلية.

وأوضح أن غياب القاضي دفع المستشار القانوني إلى الطلب من الشرطة لإغلاق المحل بالقوة، حيث يتهم العقيد أحمد سليمان بالتواطؤ مع الوزيرة جواهر والمستشار القانوني لأخذ المحل، فيما لا يزال النزاع القانوني مستمرًا.

حملنا كل هذه الاتهامات وتواصلنا مع الوزيرة في السادس من أغسطس، حيث وعدت بالرد، وأحالتنا للتواصل معها عبر تطبيق واتساب، إلا أنها لم تستجب، وأعدنا التواصل معها في الثامن من أغسطس ثم في التاسع منه دون رد، ثم أجرينا آخر محاولة في العشرين من أغسطس ولم ترد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى