مجزرة المسجد.. مجرد صورة من مأساة اسمها “الفاشر”
أفق جديد
في الفاشر المحاصرة بالحرب وبقوات الدعم السريع وحلفائها، الكل في مرمى نيران الموت، وما يتغير فقط هو المكان.
في فجر يوم الجمعة 19 سبتمبر 2025، استهدفت طائرة مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع مسجد الصافية في حي الدرجة الأولى بمدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، أثناء أداء المصلين صلاة الفجر. أسفر الهجوم عن مقتل أكثر من 75 مدنيًا، بينهم أطفال وشيوخ، وإصابة العشرات بجروح خطيرة. في مدينة الحرب حتى المساجد غير آمنة، وقد يتم تحويلها بمنتهى البساطة إلى “مقبرة”، أسوة بما حدث في مسجد “الصافية” بحي الدرجة بمدينة الفاشر، حيث اضطر المواطنون لدفن الضحايا في باحة المسجد بعد أن بات من الصعوبة بمكان الوصول إلى المقابر، إذ تحوّل مسيرات الدعم السريع المشيعين أنفسهم إلى موتى.
في دفترها الزاخر بالجرائم، تضيف قوات الدعم السريع جريمة أخرى إلى سلسلة البشاعة التي ارتكبها منسوبوها في حرب السودان، وهي الجريمة التي وصفها بيان صادر عن مجلس السيادة السوداني بأنها جريمة “يندى لها جبين الإنسانية”. المجزرة داخل المسجد وجدت استهجانًا واسعًا وأدانتها الأمم المتحدة التي اعتبرت الاعتداء على مقار العبادة جريمة ضد الإنسانية، كما أدانت المملكة العربية السعودية ما جرى، وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة على منصات التواصل الاجتماعي مشاهد مروعة من داخل المسجد، حيث بدت الجدران مشققة والجثث متناثرة بين الركام، وسجاد الصلاة مضرجًا بالدماء، وسط دعوات شعبية وحقوقية لفتح تحقيق دولي عاجل في الجريمة، التي تبدو في المدينة متجاوزة باحة المسجد إلى منطقة كاملة يُعاد تعريفها بأنها ساحة للحرب وانتهاكاتها التي لا تنتهي. كانت الجثث المتناثرة للضحايا وهم يؤدون الركعة الثانية في صلاة الفجر مجرد صورة مقربة للمأساة ومشهدًا لخص الحال تمامًا.
الفاشر آخر المعاقل التي يحتفظ بها الجيش في إقليم دارفور، ويسعى الدعم السريع حثيثًا للاستيلاء عليها. لا يمر فيها يوم دون مواجهات بين المهاجمين والمدافعين عنها. تمتلئ طرقات المدينة بالدماء، ينتهي اليوم ومع الفجر الجديد تتجدد المعارك نفسها. المطالب الأممية بوقف الموت لا تجد صدى، مثلها مثل أنات الضحايا من المدنيين. المدينة التاريخية انتهى بها الأمر لتكون مجرد جغرافيا يحاول كل طرف تعزيز سيطرته من خلالها. نجاح الدعم السريع في الاستيلاء على المدينة يزيد من احتمالية تحقيق حلم “الدولة” في جغرافيا دارفور. وجود الجيش والمتحالفين معه هناك ضرورة كبرى في حسابات السيطرة وضمان استمرارية التحالفات مع مكونات أخرى. بناءً على هذه الحسابات، على الناس الاستعداد لاستقبال موتهم في الأسواق المغلقة، في المشافي الخالية من الأدوية والكوادر، في منازلهم، أو حتى في بيوت الله.
ومع تحوّل الموت إلى مشهد يومي في المدينة، لم يكن غريبًا أن تتحول حاجة الناس هناك إلى الأكفان، حيث انتهت عهود البحث عن دواء أو عن طعام ولو كان علفًا حيوانيًا. مع تراكم الجثث في الشوارع وتحت الأنقاض، يواصل السكان دفن أحبائهم بما توفر من أقمشة بالية أو ملابس ممزقة أو بأكياس بلاستيكية، وسط حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ أكثر من عامين.
وفي وقت أعربت فيه المملكة العربية السعودية عن إدانتها واستنكارها للهجوم الذي استهدف مسجد حي الدرجة بمدينة الفاشر يوم الجمعة، وأسفر عن مقتل وإصابة العديد من المصلين أثناء أدائهم صلاة الفجر، معتبرة الحادث انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، جددت مطالبتها بضرورة إنهاء الحرب والعودة لتنفيذ مخرجات اتفاق جدة. كانت بورتسودان، العاصمة المؤقتة للسودان، تعيد رسم صورة الفاشر بشكل مختلف، حيث اجتمع مناصرون للجيش وقيادات في الحركات المشتركة ورئيس الوزراء كامل إدريس في منشط بغرض العمل على فك الحصار عن الفاشر. وأعلن رجل الأعمال ورئيس المقاومة الشعبية بالشمالية أزهري المبارك عن تبرعه بـ100 عربة بكامل تسليحها من أجل المساهمة في فك حصار المدينة، وهي الخطوة التي دفعت بحاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان أركو مناوي للتداول حول دعم أزهري المبارك مقابل رجال أعمال آخرين، وإعادة طرح سؤاله حول دعمهم لمعركة الكرامة. ودعا مناوي إلى تكثيف الجهود لإنهاء الحصار، من خلال التواصل مع الجاليات السودانية بالخارج والمنظمات الإنسانية، وتسليط الضوء على الجرائم والانتهاكات، وإنتاج أفلام وثائقية لتوثيق جرائم الحرب، بالإضافة إلى تعزيز الجانب الإعلامي للجنة الوطنية. وأكد ضرورة تشكيل لجان فرعية للجنة في كافة الولايات السودانية.
لكن محفل بورتسودان بدا وكأنه تغريد خارج السرب بالنسبة للمحاصرين في المدينة، حيث أصدرت تنسيقيات لجان مقاومة الفاشر بيانًا شديد اللهجة قالت فيه: في الوقت الذي يجلس فيه سكان المدينة على طاولات محطمة، تجلس القيادات والسلطة المركزية على “طاولة الوزارات ولعبة المناصب”، على حد تعبير البيان. وبحسب التنسيقية، فإن المؤشرات تدل على عدم فك الحصار في القريب العاجل، إذ يحتاج فك الحصار إلى تحرك حقيقي. وكانت اللجنة العليا لفك الحصار عن مدينة الفاشر قد عقدت لقاءً السبت، شارك فيه رئيس الوزراء كامل إدريس، وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، ورئيس اللجنة العليا لفك الحصار أزهري المبارك، وشددت القيادة على ضرورة إنهاء معاناة مواطني الفاشر وفك الحصار عن المدينة، بما في ذلك الخيارات العسكرية إذا اقتضى الأمر.
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أعرب عن قلقه البالغ جراء التدهور السريع للأوضاع الإنسانية والأمنية في مدينة الفاشر، محذرًا من تزايد المخاطر التي تهدد مئات الآلاف من المدنيين المحاصرين منذ أكثر من 500 يوم بواسطة قوات الدعم السريع التي تتحمل وزر ضحايا مسجد “الصافية” ومعهم وزر مقتل وتهجير الآلاف، مقرونًا كل ذلك بانتهاكات بدت وكأنها علامة مسجلة باسم الدعم السريع ومنسوبيها.
في بورتسودان وقف الجميع دقيقة صمت حدادًا على أرواح ضحايا مسجد الفاشر بسبب مسيّرة الدعم السريع. لكن صمت بورتسودان والمنادين عبر لجنتهم بفك الحصار عن الفاشر يتردد صاخبًا بصوت سيدة ما تزال عالقة وسط الموت والجوع داخل المدينة، وهي تردد: “فكوا الحصار عنا، فلم يعد في كنانة صبرنا صبر جديد”.