هوية السودان الممزقة: نحو مشروع وطني يقوم على السودانوية

بقلم : محمد عمر شمينا

منذ فجر الاستقلال، ظل سؤال الهوية واحداً من أكثر الأسئلة إلحاحاً وإرباكاً في السودان. لم يكن هذا السؤال ثقافياً أو فكرياً مجرداً، بل كان دائماً محمّلاً بالرهانات السياسية ومتصلاً بمشروع الدولة الحديثة. فالبلد الذي يجلس على تخوم العالم العربي ويتنفس من رئة أفريقيا ويحمل في أعماقه إرثاً إسلامياً عريقاً، لم ينجح حتى اليوم في صياغة توليفة جامعة تعكس هذه التعددية. النتيجة أن كل مرحلة سياسية سعت إلى فرض أحد الأبعاد الثلاثة، العروبة أو الأفريقانية أو الإسلام على حساب الأبعاد الأخرى، فانتهى المسار إلى انقسامات وحروب وتمزق لم يترك للدولة فرصة للاستقرار.

في خمسينيات القرن الماضي، كانت الحركة الوطنية تدرك أن السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات، لكن النخب الحاكمة اختارت الانحياز لخطاب يقرّب السودان من العالم العربي والإسلامي أكثر من أفريقيا. هذا الخيار ربما كان مبرراً آنذاك من منظور سياسي، لكنه خلق جرحاً مبكراً مع الجنوب وأقاليم ما يسمى بالهامش. فبدلاً من بناء مشروع وطني يتسع للجميع، تمّ تقديم هوية أحادية أُسقطت من فوق. هذا الانحياز الأولي أسس لشعور دائم بالغبن، وهو ما انعكس لاحقاً في سلسلة من الحروب الأهلية التي حصدت أرواح الملايين.

انعكاسات هذا الإقصاء على الدولة الحديثة كانت كارثية. الحرب الأهلية في الجنوب، التي امتدت لعقود وانتهت بانفصال الجنوب عام 2011، لم تكن مجرد خلاف سياسي على السلطة أو الموارد، بل كانت في جوهرها تمرداً على هوية مفروضة. فشل الخرطوم في الاعتراف بالبعد الأفريقي للبلاد ساهم في دفع أشقاؤنا الجنوبيين نحو خيار الاستقلال باعتباره الحل الوحيد للهروب من التهميش. واليوم، تكررت ذات الملامح في أقاليم أخرى مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث ارتبطت المطالب بالعدالة السياسية مع مطالب الاعتراف بالثقافة والهوية المحلية.

لم يكن المجال الثقافي والإعلامي أقل إقصاءً. فقد تبنّت الدولة منذ وقت مبكر سياسات تعليمية وإعلامية تقوم على تكريس العربية لغةً وحيدة والثقافة الإسلامية مرجعيةً شبه مطلقة. أُهملت اللغات المحلية من دينكا ونوبا وفور وبجا وغيرهم، واعتُبرت مجرد لهجات لا تليق بمستوى التعليم الرسمي. هذا التهميش الثقافي عمّق شعور القطيعة بين المركز والهامش، ورسّخ فكرة أن الدولة لم تُبْنَ على قاعدة مساواة، وإنما على فرض هوية ضيقة.

وجاء صعود الإسلام السياسي ليزيد الأزمة تعقيداً. فبدلاً من السعي إلى معالجة التعددية الثقافية والدينية، حوّل الإسلاميون سؤال الهوية إلى معركة أيديولوجية مغلقة، رافعين شعار المشروع الحضاريّ ومؤكدين على أسلمة الدولة بكاملها. هذه المقاربة أغلقت الباب أمام أي فرصة للتنوع، وعمّقت الاستقطاب حتى داخل الشمال نفسه، حيث نشأت معارضة واسعة بين التيارات العلمانية واليسارية والليبرالية. وهكذا تحولت الهوية من قضية وطنية إلى أداة للهيمنة والاصطفاف.

في مقابل هذه المسارات الإقصائية، برزت فكرة السودانوية كمحاولة للخروج من المأزق. (السودانوية) لا تنكر العروبة ولا (الأفريقانية) ولا الإسلام، لكنها ترفض حصر الهوية في أحدها. إنها رؤية ترى في السودان هوية قائمة بذاتها، ناتجة عن تداخل كل هذه العناصر ومتمايزة عنها في الوقت ذاته. (السودانوية) تقترح أن السودان ليس مجرد عربي في أفريقيا ولا مجرد أفريقي مع امتدادات عربية، بل هو كيان حضاري خاص يملك ما يمنحه للعالم.

هذه الفكرة لم تبقَ في كتب المفكرين فقط، بل انعكست في الأدب والفن. في روايات الطيب صالح، خاصة موسم الهجرة إلى الشمال، يظهر السودان بوصفه نقطة تقاطع بين حضارتين لا تنصهران بل تتفاعلان. في الشعر والغناء، حمل محمد المكي إبراهيم ومصطفى سيد أحمد، ووردي والكابلي وغيرهما حسّاً سودانوياً واضحاً، يرفض الاصطفاف البسيط ويبحث عن تعبير يخص هذا البلد وحده. هذا الوعي الثقافي سبق أحياناً الوعي السياسي، لكنه ظل معزولاً عن صناعة القرار.

ومن المفيد هنا مقارنة التجربة السودانية بتجارب أخرى، مثل جنوب أفريقيا. هناك، ورغم قرون من التمييز العنصري، استطاع نيلسون مانديلا ورفاقه أن يطرحوا هوية جامعة تحت شعار (الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام). 

 لم يكن الحل في محو الفوارق، بل في الاعتراف بها وصياغة عقد اجتماعي جديد يجعل منها مصدر قوة. السودان يملك فرصة مماثلة إن هو تبنى السودانوية، لا كفكرة ثقافية نخبوية، بل كمشروع سياسي عملي.

كيف يمكن ترجمة السودانوية إلى سياسات ملموسة؟ أولاً، دستور يقرّ بالتعدد اللغوي ويمنح اللغات المحلية مكانة رسمية إلى جانب العربية. ثانياً، مناهج تعليمية تعكس تاريخ وثقافات جميع الأقاليم، لا تاريخ المركز وحده. ثالثاً، إعلام متوازن يعطي مساحة عادلة لكل الأصوات. وأخيراً، سياسات اقتصادية تضمن توزيعاً عادلاً للموارد حتى لا تظل الهوية غطاءً لصراع حول السلطة والثروة.

الدولة الحديثة في السودان لا يمكن أن تقوم على إقصاء، لأنها بذلك تحكم على نفسها بالانهيار. هي بحاجة إلى مشروع هوية مرن وعملي، يرى في التنوع قوة سياسية وثقافية. السودانوية تقدم هذا الإطار إذا ما جرى تفعيله بجدية، لأنها تجعل من كل السودانيين شركاء متساوين في مشروع وطني جامع.

الخلاصة أن سؤال الهوية ليس سؤالاً ثانوياً، بل هو المدخل لبناء الدولة. إذا ظل السودان أسير صراع العروبة والأفريقانية والإسلام، سيبقى التمزق قائماً. لكن إذا تحوّل إلى سودانوية جامعة، يمكن أن يفتح الطريق لدولة حديثة مستقرة، تستفيد من موقعها الجغرافي الفريد لتكون جسراً حضارياً بين أفريقيا والعالم العربي والإسلامي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى