بيت العنكبوت.. صورة للوهم البراق والوهن الخفي
بقلم : عثمان يوسف خليل
بيت العنكبوت بين الوهن والقوة:
إنْ تأملنا في بيت العنكبوت لطرأ لنا سؤال، هل هو خيط من فولاذ أم بيت من وهم، وبنفس القدر حين نتأمل الطبيعة، فإننا نقف مدهوشين أمام أبسط المخلوقات وهي تعكس عظمة الخالق وأعمق الحقائق. ومن بين هذه الكائنات العنكبوت، الذي ينسج بخيوطه بيتاً يثير في النفس تساؤلاً: كيف وصفه القرآن الكريم بأنه “أوهن البيوت”، بينما العلم الحديث يخبرنا أن خيط العنكبوت من أقوى المواد الطبيعية على الإطلاق؟
النص القرآني ومعناه, يقول المولى عز وجل:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 41).
هناك بعض المفسرين ذكروا أن الوهن في البيت لا في الخيط. فالبيت الذي ينسجه العنكبوت ليس مأوى حقيقياً؛ لا يقي من حرٍّ ولا برد، ولا يحمي من مطر ولا ريح. إنه مأوى عابر، سريع الانهيار، بل وقد يتحول إلى ساحة صراع يفتك فيه القوي بالضعيف فالأنثى – وهي التي تبني البيت – تفترس الذكر بعد التزاوج في كثير من الأنواع، وأحياناً تلتهم صغارها. وهكذا يغدو “البيت” رمزاً لغياب السكن والطمأنينة.
خيط العنكبوت في ضوء العلم:
من ناحية علمية، كشفت الأبحاث الحديثة أن خيط العنكبوت ذو قوة شدّ مذهلة، تفوق قوة الفولاذ إذا ما قورنت بالوزن. بل هو أخف من القطن وأقوى من الحديد، وقد ألهم العلماء لاستخدامه في صناعات دقيقة، كالطب (خيوط الجراحة)، والهندسة (المواد المركبة)، وحتى في مجال الدروع الواقية.
لكن هذه القوة الفيزيائية للخيط، لا تجعل من البيت بيتاً صالحاً للسكن. فمهما بلغت قوة الخيط، يظل البيت عرضة للزوال عند أول ريح، ولا يوفر أي حماية أو دفء أو استقرار.
التقاء الوحي بالعلم:
هنا تظهر البلاغة القرآنية في أبهى صورها:
الوحي يتحدث عن وهن “البيت” بمعناه الوظيفي والمعنوي.
العلم يثبت قوة “الخيط” مادياً. وبهذا يتكامل المعنى: الخيط قوي، لكن البيت ضعيف. المادة متينة، لكن الوظيفة واهية. ولعل هذا من إعجاز التعبير القرآني الذي يميز بين الشيء في ذاته وبين دوره ووظيفته.
البعد الرمزي:
يتجاوز النص القرآني الجانب الحسي ليعطي درساً بليغاً في الحياة: من يتخذ من دون الله سنداً، يظن أنه قد وجد المأوى والحماية، فإذا هو كمن احتمى ببيت العنكبوت؛ يلمع من بعيد، لكنه ينهار عند أول نفخة ريح.
إنه تشبيه يربط بين صورة ماثلة أمام العيون وبين حقيقة عميقة في النفوس: الأمان لا يكون إلا في الاعتصام بالله، وكل ما عداه وهمٌ كسرابٍ أوهن من بيت العنكبوت. وهنا نتذكر قول المولى عز وجل في محكم تنزيله عن الاعتصام وأهميته للوحدة والترابط:
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
الدرس لحياتنا اليوم:
حين نتأمل بيت العنكبوت، ندرك أن هناك صوراً كثيرة للوهن في حياتنا اليومية تشبه هذا البيت. فقد يبني الإنسان علاقاته على المصلحة المؤقتة، فيظنها متينة، فإذا بها تنهار عند أول خلاف. وقد يتكئ على المال أو الجاه أو النفوذ طلباً للأمان، فيكتشف أنها أوهن من بيت العنكبوت حين تحل الأزمات. بل إن بعض النفوس تتعلق بأوهام القوة، أو بعلاقات هشة، أو بشعارات فارغة، فإذا امتحنتها الحياة تهاوت سريعاً.
إن الدرس البليغ الذي تقدمه لنا هذه الآية أن المأوى الحقيقي لا يكون إلا بالله؛ هو وحده السند الذي لا يتداعى، والحصن الذي لا يُهدم. وكل اعتماد على غيره يشبه الاعتصام بخيوط بيت العنكبوت: لامعة في المظهر، لكنها خاوية في الجوهر. وهكذا يصبح بيت العنكبوت ليس مجرد مشهد في الطبيعة، بل رمزاً عميقاً يذكّرنا بأن القوة الحقيقية ليست في المظاهر، بل في الأساس الراسخ والإيمان الصادق.
مع محبتي وكل احترامي
المملكة المتحدة