حكاية من بيئتي .. ضل النيمة

بقلم : محمد أحمد الفيلابي

منذ عودتهم احتل سريره وملحقاته ظل النيمة (الماهل) في طرف الحوش الوسيع. و(الماهل) من أعطاه مهلة، أو رفق به. وكعادة السودانيين يشتقون من المفردات ما لا تستطيع إلا استساغته. وسرير المريض في ذلك الظل لا تصله الشمس، مع حركة الإزاحة شرقاً وغرباً، يقوم بها أربعة أفراد مرتين في اليوم. اثنان لحمل السرير، وثالث لتثبيت الأجهزة الطبية، ورابع للعناية بما يتصل بها من ملحقات.

ــ الحلة كلها بي ضيوفها قاعدين في ضل أبوك.

في الصباح الرابع انحنت فوقه العمة قليلة الكلام، وهمست في مزيج من الإشفاق والانتصار، وهي تغالب غضبتها القديمة، حين كان هذا (الحي الميت) يحاول نزع أبيه من حياته التي يعرف، ويذهب به إلى المدينة بحجة أن يكون قريباً منه.

سمعها لكنه عجز أن يقول، أو أن يفعل أكثر من تحريك عينيه حين لسعته الدموع الحارقة.

كانت قوية البنية حتى بعد أن تخطّت التسعين. يهابها البعض، لكنهم يكنُّون لها تقديراً خاصاً، بعضه من حبهم لأخيها الخيّر صاحب اليد (اللاحقة) كما يقولون. يمنح بلا صوت، ويطبّب الجراح النفوس بابتسامته العريضة. يزرع الطمأنينة، مثلما يزرع في كل مكان الأشجار، وخاصة شجر النيم. ولا يدري أحد لماذا هذا العشق للنيم. بل حتى الصبايا يسكت ضجيجهن من تعب تساقط الأوراق حين يجلسن في الظلال يغسلن أوجاعهن الخاصة، أو ينسجن أحلامهن، أو يستذكرن دروسهن.

ما من بيت لم يدخله ويقنع أهله بزراعة النيم وبعض الأشجار الأخرى، بل كان يتعهدها بالرعاية، مغلفاً هدف زياراته لتفقد أحوال الأسر. إذ لم يكن يدخل بيتاً دون أن يحمل شيئاً، وإن كان حفنة تمر. وفي الغالب يكون هناك مبلغ من المال قد اندس في كف صاحبه أو صاحبته. وحين ينكشف الأمر لآخرين، وتظهر على الوجوه مسكنة المسغبة، يردد مقولته الأثيرة في همس مشوب بضحكة صافية:

ــ أنا مأمور بالمناولة، والرازق هو الخالق.

حين أدرك الابن أن أباه يقوم بتوزيع الأموال على عشرات الأسر احتج متهماً اباه بالبخل على نفسه، كأن يشيد منزلاً يليق بقدراته المالية، فهو يسكن في منزل يشابه كل المنازل، وركوبته تشبه حميرهم، في حين كان يمكنه شراء عربة يتجول بها بين مزارعه، ومخازنه في القرية وقرى الجوار، فقد كان أحد أغنى تجار المحاصيل بالمنطقة. وفي مرة حاول إقناع أبيه بمنطق الدين..

ــ ربنا قال “وأما بنعمة ربك فحدث”.

وجاءه الرد الصاعق بما لا يفهم..

ــ أنا أحدث عنها يا إبني، لكن بفهم غير فهمك، وبلسان غير لسانك، لن أتطاول ببنيان وركوبة على أهلي. ولو كان العيش هنا لا يروق لك، فاذهب.

واستدرك..

ــ لك أن تلتحق بخالك في المدينة، ابن لنفسك اسماً وتجارة خاصة بك، حتى إن أردت أن تتقدم لخطبة إحدى بناته كما اشتهت أمك يرحمها الله، تكون في حل من المعايرة بأنك تعيش في ظل خالك.

وفي ذاك اليوم قام بمنحه مبلغاً مالياً كبيراً، وزوّده بنصائح جمّة. وأحاطه بحقائق حول التوجهات السياسية التي جعلت من خاله اسماً في عالم التجارة، والحزب الذي فتح له دروب الغنى، ذلك حتى يكون على بيّنه إن أراد أن يمشي على ذلك النهج. وختم نصائحه..

ــ قدر ما تبقى قريب من ربك ومن روحك، تلقاك قريب من أهلك وناسك. والقرش خدِّمو، وما تسيِّدو عليك، لأنو إن سادك بفسدك، ويفسد حياتك كلها.

حاول الابن في ارتباكه أن يقول شيئاً..

ــ أنت يا ابي تزرع الشوارع، المدارس، وحتى بيوت الناس، وتهتم بالشجر أكتر من أي شيء.

ــ القبالنا زرعوا يا ولدي ولقينا الضل، ونحن بنزرع عشان البجوا بعدنا يلقوا كمان.

وضحك ضحكته التي تعني قفل الحديث، أو (الإغلاق) كما يقول أهل الترويج للسلع والأفكار والرسائل.

بعد سنوات طويلة ظل الحديث بينهما عند زيارات الأب القليلة للمدينة، أو زيارات الابن للقرية يدور حول رغبة الابن في انتقال أبيه إلى المدينة ليكون قريباً منه. أو السماح له بهدم الدار القديمة، وإزالة هذه الأشجار التي بلا فائدة (بحسب رأيه) من الفناء حتى يمكنه تشييد داراً تشبه دار جارهما المغترب، أو أفضل منها. يومها كان الاغلاق النهائي لذلك الباب..

ــ عندما أموت تعال وانقل جثماني إلى مدينتك، وأفعل ما تشاء في الدار بعد موافقة عمتك. 

ــ عمتي أم أخواني؟ 

سأل في استنكار من ظن أنه يملك الحق في كل شيء.

ــ أخوانك نالوا حقهم كاملاً، ولا أحد يشاركك في الدار سوى عمتك.

ما يعني أنه حتى في حال رحيل أبيه سيكون حجر العمة عثرة في وجه حلمه. 

تناسى الأمر مع الأيام والانشغال بحياة المدينة، إلى أن جاء لتلقي العزاء في أبيه. ويومها شيد خيمة خاصة بذويه ومعارفه الجدد، وجعلها مفتوحة على منزل الجار الذي يشبه بيوت أثريا المدينة، وقد فتح لاستقبال الضيوف القادمين من بعيد كما هي عادة أهل القرى.

وها هي عودته (الإجبارية) للدار القديمة، بعد اندلاع الحرب نازحاً، تبقيه على شط التأمّل والتفكّر فيما كان، وما هو كائن الآن. جاء في معية أثنين من أفراد أسرته بعد أن تعذّر عليهم نقله إلى أي من دول اللجوء مثلما فعل معظمهم. وبقي أسيراً لتطواف الأحداث القديمة. يسمع الأحاديث حوله دون أن يتمكن من المشاركة في الأحاديث. تفاخر عمته والآخرين أن النازحين وجدوا في الأشجار مأوى لهم من حر الغرف، والدعاء لمن غرسها، إذ لولاها لبات البقاء أكثر صعوبة من وجع النزوح نفسه. حتى من سكنوا بيت الجار الفخم ما استطاعوا البقاء في الحجرات الساخنة، فلجأوا لظلال الأشجار. وها هي أصوات الأطفال تأتيه من بعيد، حيث ظلوا يزاحمون الأغنام والحيوانات الأليفة في ظلال أشجار الشوارع. وتتعلق نظرته بالأغصان المشرئبة نحو عنان السماء، تمارس صلواتها الخاصة، وتدعو لذلك الراقد تحت التراب.

ــ لماذا فكر جدي في شجرة النيم دون سواها؟

سأل الحفيد العمة، وأناب عنها الآخرون، فيما كانت تهمهم بدعواتها، وفي كل مرة تنظر إلى المسجى يسمع ولا يشارك في الحديث، بينما الحفيد يتلقى المعلومات في شغف بيّن.

يقولون إن الجد فتح عينيه على جهود نشر شجرة النيم أوائل ثلاثينيات القرن الماضي. وكانت أقدمها هي تلك التي غرسها الخواجة حين افتتاح نقطة غيار القرية 1922، حينها كان طفلاً صغيراً. ومثلما شب هو، نمت الشجرة لتطول قامتها ضعفي السور القصير. وأصبحت نقطة الغيار شفخانة، ثم تطورت إلى مركز صحي. ويقال إنه كان يلتقط بذورها ويحاول أن يزرعها. فشل في إنباتها، اقتاده أبوه إلى مكتب الغابات بالمدينة وحدثهم عن ولعه بالشجرة، فمنحوه عدداً من الشتول، بل وعدوه في حال نجاح شجراته بعدد من الشتول في كل مرة، ولاحقاً تعلّم كيفية الإنبات، فقد عرف أن يجمع الثمار الناضجة ذات اللون الأصفر، ثم ينزع عنها اللب الخارجي، وينظّف البذور، ويجففها قبل أن يزرعها في تربة خفيفة في أوعية صغيرة، أو أكياس الشتول التي منحوها له، وعلموه كيف يرعى الشتول، فتشب حتى تقارب النصف متر، ومن بعد ينقلها إلى موقعها الدائم، ثم يقف على ريّها بمساعدة الأخرين القريبين منها. وكان يقوم بتحفيز العاملين في المؤسسات (سراً)، ليقوموا بالرعاية اليومية. وفي مرحلة ما تترك الشجرة لتروي نفسها بعد أن تتعمق جذورها في التربة.

النيم هي من الأشجار ذات الأهمية البيئية والاقتصادية العالية، لما تتميز به من قدرة فائقة على التكيّف مع الظروف المناخية القاسية، ولتعدد استخداماتها في مجالات الزراعة المستدامة، ومكافحة التصحر، والطب الطبيعي، حتى أن أهلها في الهند يسمونها (صيدلية الطبيعة). وظلت خياراً مثالياً للزراعة في المناطق الجافة وشبه القاحلة. إلا أن نجاح زراعة النيم يتطلب فهماً دقيقاً لخصائصها البيولوجية، ومراعاة العوامل الفنية والبيئية المحيطة، لتفادي أي آثار سلبية محتملة، وتعظيم فوائدها على المدى الطويل، والتي من بينها الإسهام في تحسين البيئة، ومكافحة الآفات، وزيادة الغطاء النباتي. بشكل فعّال. 

لاحظ النازحون قلة الحشرات والهوام بالقرية، دون أن يربط أحدهم الأمر بانتشار شجرة النيم. بيد أن أكثر ما لاحظوه هو لطف الجو في ظلالها الكثيفة الواسعة، والتي أغنتهم عن التكدُّس في الغرف، رغم أن غرف البيوت الطينية ذات الأرضيات الرملية، أكثر برودة من تلك الحديثة بأرضياتها الأسمنتية والسيراميكية الساخنة.

هل ذلك الرجل البيئي يدري أن مقولته ستجد التفسير العملي بعد سنوات من رحيله؟

ــ القبالنا زرعوا يا ولدي ولقينا الضل، ونحن بنزرع عشان البجوا بعدنا يلقوا كمان.

وإلى اللقاء في حكاية جديدة من بيئتي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى