التاريخ شاهد.. من يهدم لا يعرف كيف يبني
حيدر المكاشفي
تقول الحكاية إن السلطان سليمان القانوني طلب أن يؤتى إليه بمهندس موثوق بعلمه وأمانته، فجيء إليه بمهندس من أصل أرمني اسمه معمار سنان، فعهد إليه هدم إحدى السرايات القديمة وإنشاء سرايا جديدة مكانها وبعد الانتهاء من تشييد هذه السرايا، استدعاه السلطان وقال له عندما كنت تهدم السرايا استخدمت عمالًا ثم استبدلتهم بعمال آخرين في البناء، فلماذا فعلت ذلك، أجابه المهندس “ناس للتدمير وناس للتعمير، ومن يصلح للتدمير لا يصلح للتعمير”. فأُعجب السلطان بحكمة المهندس وعينه مستشاراً وسمي بسنان باشا، وقد شيد لاحقًا أعظم مباني الدولة. والعبرة هنا واضحة وهي لا يجوز أن يتولى الذين دمّروا البلاد إعادة إعمارها لأن من يصلح للتدمير لا يصلح للتعمير، فالعبارة تحمل في طياتها حكمة عميقة تختزل تجارب التاريخ الإنساني والسياسي والاجتماعي. فالتدمير سهل، يحتاج فقط إلى قوة غاشمة أو قرار متهور، بينما التعمير عملية معقدة تتطلب رؤية بعيدة المدى، وصبرًا، وحكمة، وقدرة على جمع الناس حول مشروع مشترك. ومن يجيد التدمير عادة لا يمتلك أدوات البناء، فالتدمير يقوم على الغضب والنقمة، بينما التعمير يقوم على الأمل والإبداع. التدمير يحتاج إلى سلاح، أما التعمير فيحتاج إلى فكر ومشروع وإيمان بالإنسان. في السياسة مثلًا نرى قادة يبرعون في إثارة الحروب والانقلابات، يهدمون الدول ومؤسساتها بدعوى التغيير، لكنهم حين يصلون إلى الحكم يعجزون عن بناء نظام عادل أو اقتصاد متين، لأن منطقهم قائم على الهدم لا الإصلاح. والتاريخ العربي والأفريقي مليء بأمثلة لانقلابات رفعت شعارات التحرير والعدالة، لكنها انتهت إلى أنظمة أكثر فساداً وتسلطاً، لأن من حمل السلاح للهدم لم يمتلك أدوات الرؤية للبناء كذلك في حياة الأفراد من يسهل عليه تحطيم معنويات الآخرين بالنقد الجارح والسخرية، نادراً ما يملك القدرة على تشجيعهم أو دفعهم للنجاح. فالبناء يتطلب صبراً وطاقة إيجابية، بينما التدمير يكفيه كلمة واحدة. وفي المجتمعات، الجماعات المتعصبة أو الحركات المتشددة غالباً ما تنجح في نسف التعايش، لكنها تفشل تماماً في إقامة مجتمع متماسك، لأنها تتقن التفريق ولا تحسن الجمع، تعرف كيف تهدم الجسور ولا تعرف كيف تبنيها. والتاريخ الإنساني يزخر بأمثلة تؤكد أن من برعوا في التدمير، فشلوا حين أُوكلت إليهم مهمة التعمير. فالتدمير فعل لحظي يعتمد على القوة والغضب، بينما التعمير فعل تراكمي يحتاج إلى رؤية وحكمة وصبر طويل. فالهدم لا يتطلب سوى قرار متعجل أو سلاح متفجر، بينما البناء يحتاج إلى علم، وتخطيط، وأدوات، ومشاركة جماعية. هذه الحقيقة يثبتها الواقع يومياً، سواء في السياسة أو المجتمعات أو حتى في العلاقات الإنسانية.
من الأمثلة التاريخية سقوط بغداد 2003 حيث نجح الغزو الأميركي في إسقاط النظام بسرعة، لكنه فشل في بناء دولة مستقرة. ليتحول العراق بعدها إلى ساحة صراعات، لأن من جاءوا للتدمير لم يمتلكوا مشروعاً للتعمير. وأفغانستان طالبان في التسعينيات نجحت في السيطرة بالقوة، لكنها فشلت في بناء دولة حديثة، فعادت البلاد إلى دائرة الفقر والعزلة. وبلدان مثل ليبيا وسوريا، عاشتا هذه التجربة بمرارة فمن حملوا السلاح للهدم لم يمتلكوا مشروعاً حضارياً للبناء، فتحولت أوطانهم إلى ساحات نزيف مستمر. وسودان الحرب اليوم يسير بخطى حثيثة نحو هذه الهاوية إن لم يتم تداركه. وعلى النقيض من هذه الأمثلة السيئة، نجد تجارب ناجحة مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ورواندا بعد حرب الإبادة، حيث انتقل القادة من ثقافة الحرب إلى ثقافة التنمية، فكان البناء ممكناً لأن من تولوا القيادة حملوا فكراً جديداً يختلف عن أدوات التدمير. وخلاصة القول والدرس المستفاد إن من يملك عقلية التدمير يفتقد عادةً إلى مهارات البناء. فالتدمير يستهوي الغاضبين والمتعصبين، بينما البناء عمل جماعي يحتاج إلى فكر استراتيجي وروح توافقية. ولهذا فإن القادة الذين يأتون عبر العنف أو الانقلابات غالباً ما ينتهون إلى نظم قمعية أو دول فاشلة، لأن أدواتهم لا تصلح لمرحلة التعمير. من يحمل السلاح قد يسقط خصماً، لكنه لا يستطيع أن يبني وطناً. ومن يبرع في إثارة الكراهية والانقسام، لا يعرف كيف يغرس الأمل والوحدة. البناء يحتاج إلى صانعي جسور، لا هادميها إلى قلوب واسعة ترى المستقبل، لا عيون غاضبة أسيرة الماضي. والتاريخ يعلمنا أن من يريد عملًا عظيمًا لا بد أن يكون باني جسور لا هادمها، صانع أمل لا ناشر خوف، رجل دولة لا مجرد قائد حرب. ولهذا فإن أعظم القادة ليسوا من فتحوا الجبهات، بل من أغلقوها وبنوا على أنقاضها جسورًا للسلام والتنمية. والتاريخ يقول لنا إن من يصلحون للتدمير لا يصلحون للتعمير. وإذا أرادت الشعوب أن تنهض من بين الركام، فعليها أن تختار بناة يؤمنون بالحياة، لا هدامين لا يجيدون غير صناعة الخراب.