نحو خارطة طريق موازية وسردية السلام في السودان


محمد الأمين عبد النبـي

سبقت حرب 15 أبريل 2023 إرهاصات ومؤشرات، حيث بلغت درجة الاستعداد الإعلامي القصوى ودق طبول الحرب وتجهيز غرف الدعاية الحربية والآلة الإعلامية وصياغة السرديات؛ ووصلت أعلى مستوياتها مقارنة بالاستعداد العسكري، وما إن أكملت قوى الردة والثورة المضادة تحضيراتها اللازمة للحرب ووصل التحشيد قمته وإفشال محاولات التهدئة، حينها أُطلقت الرصاصة الأولى لتعلن عن بداية حرب لا هوادة فيها، في ظن مشعلوها أن الحسم لن يستغرق بضع ساعات أو أيام. من تلك اللحظة أصبحت السردية والدعاية هي التي تقود المعارك في الميدان، وتغذي نيرانها بتوحش وقبح الكلم، وبلا مبالغة فإن كثيراً ما تطلق التوجيهات العسكرية عبر منشور أو بث مباشر أو فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي. إذن فإن حرب السرديات سابقة للمواجهة العسكرية بل وموجهة لها، هذه هي الحقيقة المجردة.
اعتمدت سردية الإسلامويين للحرب على ركائز محددة وظلت تكرر بصورة مملة، أنها حرب كرامة لاستعادة السيادة، وحرب ضد انقلاب على السلطة، وحرب رد عدوان خارجي، وانجرت وراءها قيادة الجيش، وتبنتها بشكل كامل ولم تستطع الخروج عنها، وأصبحت منقادة لها رغم محاولاتها للتخلص من محمولاتها الثقيلة التي تشير إلى العودة للسلطة من جديد؛ وبالتالي فشلت كل سانحة لوقف الحرب وسيطر خطاب استمرارها. في الجانب الآخر من الحرب اعتمدت سردية الدعم السريع للحرب على إنهاء دولة 56 وإزالة التهميش واستعادة الديمقراطية ومحاربة فلول النظام البائد، ولاحقاً بتبني خطاب علماني يغذي استمرار الحرب أيضاً. بالمقابل اعتمدت سردية القوى المدنية الديمقراطية رفض الحرب والدعوة إلى العودة للتفاوض والتأكيد على أن لا نصر عسكري، وأن الحل السياسي هو المدخل الصحيح لمعالجة ظلامات الماضي وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد بناء الدولة على أسس مشروع وطني، عبرت عن هذه السردية في بداية الحرب عن كل القوى المدنية تقريباً عدا الإسلامويين، ولكن سرعان ما تأثرت قوى منها – ولا سيما الحركات المسلحة والقوى التي دعمت انقلاب 25 أكتوبر- الانحياز والهجرة إلى معسكري الحرب وتبني مواقف أكثر تشدداً لتقديم فروض الولاء والطاعة، وأصبحت المناداة بالسلام جريمة، وانطلقت حملات شيطنة وتخوين واسعة النطاق لكل من يقول (لا للحرب) وسادت مقولة (من ليس معنا فهو ضدنا).
بنيت سرديات الحرب على خطاب الكراهية والتمييز العنصري والتضليل والأكاذيب وتبرير الجرائم والخداع والتنميط والعنف اللفظي والتشنج والشطط، واستخدمت الغرف الإعلامية لطرفي الحرب كل الإمكانيات المادية والبشرية لخلق وعي زائف ساحته مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام للتحكم في عقول وقلوب الناس، وانتشرت ظاهرة اللايفاتية كالنار في الهشيم، وتنوعت فبركات الذكاء الاصطناعي، واُغرق المجال العام بكم هائل من فاحش القول والاسفاف والإبتزال والتنمر والسقوط الأخلاقي، وأصبح كل من ينشر محتوى كراهية وعنصرية يجد من يمجدونه في الوقت الذي يوصم بالعار كل من يدعو للسلام وإيقاف الحرب. لقد حولت السرديات الحرب وطبيعتها من صراع سلطة الي حرب دولة ومجتمع، كرست للانقسام السياسي والمجتمعي، سمّمت المناخ العام الذي يردد بلا وعي “بل بس”، رسخت الإقصاء المطلق، أحدثت ارتباكًا بتشتيت الانتباه عن المخاطر الجمة التي تحدق بالوطن وعمقت الأزمة بصورة خطيرة تنذر بتشظي وانهيار الدولة (من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنباً).
صحيح؛ نجحت غرف الدعاية الحربية في تحقيق اهدافها بتغذية الحرب بكل عوامل الاستمرار وفق معايير التدمير والتقتيل والتجويع والتخريب والتوحش والمعاناة، هذا ما كشفته التقارير الصادمة والحقائق الدامغة، ولكن؛ معلوم بالضرورة أن الحروب تقاس بنتائجها السياسية وما يترتب عليها لصالح الشعوب مقارنة بالخطاب والسردية، وفي هذا فإن كل المؤشرات تؤكد بأن سرديات الحرب تآكلت واحدة تلو الأخرى حتى سقطت وهوت بها الريح في مكان سحيق، وانكشف الوجه الحقيقي لما ورائها، فلم تصمد سردية “ديمقراطية البندقية” أمام الانتهاكات الواسعة والجرائم الجسيمة، كما بددت حقائق الواقع سردية “كرامة الإسلامويين” فجعلوها حرب على السودانيين بالإهانة والانتقام والتعذيب والتجويع والقتل على أساس الهوية والتشريد في معسكرات النزوح واللجوء وضياع السيادة الوطنية. نعم؛ بعد عامين ونصف سقطت أقنعة الديمقراطية الزائفة والكرامة المهدرة تحت وطأة تناقضاتها وعقمها وفشل إخفاء الممارسات المخزية أمام شاشات الهواتف المحمولة وأمام الضمير الإنساني. فضحت الأيام النوايا الخبيثة والأكاذيب المزروعة وهراء سردية الحرب ودعاية القتل المجاني وضحالة البحث عن سلام قائم على الغلبة الذي يعد فصل جديد من إستمرار الحرب في ظل تغيير موازين القوة.
تنامي الوعي الشعبي وتراجع دعوات إستمرار الحرب وبروز سردية السلام لتفرض حضورها بقوة في المشهد السوداني، فهي ليست مجرد رواية مغايرة بل مشروع وطني يعيد جدلية التأويل والرؤى السياسية بدلاً عن الرصاص والصراخ والقبح والكراهية (بضدها تستبين الأشياء). فالسلام الذي كان بعيداً ومستحيلاً في ظنهم أصبح قاب قوسين أو أدنى، فقد خرج من ليل الحرب الطويل الدامس فجر السلام وإمكانية تحقيقه أصبحت مواتية، وبدأت تخبو شرارة الوعي الزائف والتضليل لصالح شرارة الأمل والحقيقة وعودة الوعي.
مثّل بيان الرباعية – الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات الصادر بتاريخ 12 سبتمبر 2025 – اختراق كبير في المشهد السوداني بما يحمله من توجه جديد لحل الأزمة السودانية، بمبادئه المتمثلة في: سيادة السودان ووحدته، ولا حل عسكري وتهديد الحرب للسلم والأمن، ووصول الدعم الإنساني، وحماية المدنيين، والحكم المدني الانتقالي. وخارطة طريق متمثلة في: هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر للمساعدات الإنسانية، وقف إطلاق نار دائم، عملية سياسية شاملة لمدة تسعة أشهر وحكومة انتقالية مدنية مستقلة. وفق تدابير ووسائل تنفيذ متمثلة في: متابعة الرباعية نفسها لتنفيذ الخطط وتقديم الجهود اللازمة، ودعم عملية تفاوضية بين الجيش والدعم السريع لوقف دائم لإطلاق النار بمرجعية اتفاق جدة، وعملية سياسية بمرجعية مؤتمر القاهرة، ومكافحة التهديدات الأمنية العابرة للحدود من الجماعات الإرهابية وأمن البحر الاحمر بالتصدي المشترك، وتكثيف الجهود والمساعدات الإنسانية بالتعاون الإقليمي والدولي. ومواقف واضحة متمثلة في: تفاوض الجيش والدعم السـريع، رفض عودة الاسلامويين، مشاركة القوى المدنية في انتقال شامل، تكوين حكومة مدنية مساءلة ورفض أي دعم لطرفي الحرب. وبالتالي فإن بيان الرباعية قذف بحجر كبير في بركة ساكنة ووضع خطة وقف الحرب ومعالجة الكارثة الإنسانية والحل السياسي، كأول مشروع يخاطب بوضوح أزمة الحرب والسعي في حلها بدلاً عن إدارتها. ومثل إبعاد الإسلامويين نقطة محورية للوصول إلى سلام في السودان باعتبارها قوة خبيثة لعبت دوراً خطيراً خلال حكم البشير وأعاقت الإنتقال وتسببت في الانقلاب واشعلت الحرب وعرقلت الوصول إلى سلام.
لقد استطاعت قوى الثورة المدنية أن تصمد في مواجهة رياح عاتية ووسط استقطاب عنيف بين معسكري الحرب، وواجهت حملات التشويه والتخوين والشيطنة بكل ثبات وإستقامة على موقفها الرافض الانحياز وتمسكها بالحل السياسي، مما جعلها الضامن لوحدة السودان ضد مشروع التقسيم والتشظي وخط الدفاع الأول في مواجهة مآلات الحرب الكارثية، وما جاء في بيان الرباعية يعد إنتصاراً وتعبيراً عن تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة.
رسم بيان الرباعية خطة لوقف الحرب في السودان، وجدت دعماً كبيراً من الاتحاد الإفريقي، الاتحاد الأوروبي، فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، كندا، تشاد، الدنمارك، جيبوتي، مصر، إثيوبيا، الإيغاد، كينيا، المملكة العربية السعودية، جامعة الدول العربية، ليبيا، النرويج، قطر، جنوب السودان، سويسرا، تركيا، أوغندا، الإمارات العربية المتحدة، الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، كما دعمته القوى المدنية السودانية، ولكن؛ هذا المجهود لن يكتب له النجاح ما لم تصحبه خارطة طريق موازية ومكملة لخطة الرباعية وسردية وطنية لسودنة السلام وتعزيز الوحدة الوطنية ومعالجة تداعيات الحرب الاقتصادية والاجتماعية وتقارب مسبباتها وتطرح تصورات الحل السياسي الشامل وبناء عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة المتساوية ويعيد اللحمة السودانية.
خارطة الطريق الوطنية الموازية تقوم على:
1. وحدة السودان قضية محورية لا مساومة فيها، وهي أساس تصميم العملية السياسية لمجابهة تعقيدات واقع التقسيم الذي أفرزته الحرب وتفكيك شبكات المصالح وامتيازات أمراء الحرب لصالح وحدة وطنية على اساس حكم ديمقراطي فدرالي حقيقي.
2. الدعم السياسي للهدنة الإنسانية كقاطرة لبقية ترتيبات وقف اطلاق نار دائم وكمتغير رئيسي لخلق مناخ جديد يوقف حدة الاستقطاب السياسي ويمكن السودانيين من العودة إلى منازلهم وممارسة حياتهم العادية.
3. استنهاض كافة مكونات المجتمع السوداني لمجابهة الكارثة الإنسانية وتخفيف معاناة المواطنين والمساهمة الفاعلة في ضمان وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها ومحاصرة الفساد والاستغلال السياسي للملف الإنساني.
4. إطلاق حوار بين القوى المدنية الرافضة للحرب لتوحيد الصوت المدني وتنسيق المواقف كمدخل لجبهة مدنية للسلام وكتمهيد لحوار سياسي يعزز الملكية السودانية للعملية السياسية وتحديد دور المجتمع الإقليمي والدولي.
5. إبراز خطاب السلام الذي يفضح خطاب استمرار الحرب، يقوم على وضع هذه الحرب في سياقها الصحيح باعتبارها حرب على الشعب السوداني بل خصماً علي تطوره وتنميته وأمنه واستقراره، خطاب يؤكد حيثيات من المستفيد من الحرب واستمرارها ومحاكمته سياسياً وأخلاقياً، خطاب يحدد حجم الانتهاكات والجرائم والخراب الذي خلفته الحرب، خطاب يستنهض كل قطاعات الشعب لتخفيف معاناة المواطنين وإطلاق حملات الإغاثة والرعاية الصحية والاجتماعية وحماية حقوق الانسان، ويعمل على تعبئة شعبية واسعة لوقف الحرب وعزل المروجين لها، خطاب يضع في أولوياته تماسك المجتمع السوداني والحيلولة دون زرع الفتن بين القبائل والحرب الأهلية كتطور طبيعي لاستمرارها، خطاب يضع ملامح سودان ما بعد الحرب وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، خطاب يعالج أسباب وجذور الأزمة ويستوعب التطورات التي فرضتها الحرب على المشهد السياسي ويماسك الجبهة الداخلية في مواجهة قوى الردة، خطاب يحاصر الكراهية والعنصرية والتطرف والشطط.
خارطة طريق وطنية موازية ومكملة لخطة الرباعية من شأنها تقديم مشروع وطني قابل للتنفيذ، وترياقاً لسردية المؤامرة دون بدائل سوى إستمرار الحرب إلى ما لا نهاية، ومن شأنها كسب شرعية شعبية ودولية لإرادة السلام والتحول المدني الديمقراطي، هذا هو نداء الواجب الوطني لإغتنام هذه الفرصة التاريخية في ظل تحولات إقليمية ودولية لصالح وقف الحرب وتحقيق السلام (ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى