قبل الكارثة
افتتاحية
نراقب، وبعيون تملؤها الحيرة والوجع، ما يجري في مطابخ القرار الإقليمية والدولية بشأن السودان. لا نراقب باعتبارنا متفرجين محايدين، بل كمواطنين يتنفسون نفس الهواء الذي يُسمم بالخطط والصفقات، كمواطنين ترافقهم ذاكرة طويلة من خيبات الأمل، وكمراقبين يدركون أن ما تكتبه البيانات الرسمية غالبًا ما يبقى أفل من حقيقة الأزَمَة. كل الدلائل، ومن منابر متعددة، تقول إن الخلافات حول السودان أوسع وأعمق من أن تستوعبها عبارات النوايا الطيّبة التي تُذاع على شاشات الإعلام.
نعم، الجميع – نظريًا – اتفق على ضرورة إنهاء الحرب فورًا. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقسوة: كيف؟ كل طرف يريدها أن تنتهي كما يُرضي مصالحه، وكل دولة باتت لها “حصة” في هذه الحرب ترى أنها الأحق بالنصيب الأكبر من مكاسب ما بعدها. هنا تتحول الكلمات الطيبة إلى ستار رقيق يخفي وراءه حسابات جيوسياسية، مصالح اقتصادية، ومشروعات نفوذ لا علاقة لها بوجع المواطن السوداني ولا بدمه الذي يجترُّ على طرقات الموانئ والأحياء والقرى.
وسط هذا الوحل، هناك إنسان سوداني يموت. يموت إما بفعل القصف المباشر، أو بفعل الحصار والجوع ونقص الدواء؛ يموت ضائعًا بين مصالح الغائبين ووعود الحاضرين. التقارير الموثوقة – تلك التي كتبت بحبر لا يرضى بالمجاملة – تتحدث عن استخدام أسلحة محرمة دوليًا، عن انتهاكات تتجاوز حدود الخيال. إن مجرد ترديد عبارة “نحقق في الانتهاكات” لا يداوي جرحًا ينزف على مدار سنوات. إن كانت القوانين الدولية الموجودة لردع مثل هذه الجرائم، فظاهرها أكثر قوتها من باطنها حين يتعلق الأمر بمنع تورُّط حلفاء أو حراسة مصالح استراتيجية.
والعجب الأكبر أن هذا المشهد الدولي المتصارع يتقاطع مع حالة محلية من الشلل: القوى السياسية المدنية، التي كان يُفترض أن تكون الدرع الواقي للشعب، غارقة في منازعات داخلية وصراعات على مواقع ومغانم خطابية. إنها محنة مزدوجة: من الخارج صراع المصالح، ومن الداخل صراع الصغائر. في وقت تحتاج فيه البلاد إلى توحُّد محتضن ومُفاوض قادر على أن يعيد للناس حقوقهم وحياتهم، نرى تنازعًا غير مبرر حول من “يحمل جثة الوطن ليواريها الثرى”. هل نحن حقًا بصدد دفن الوطن؟ أم أننا أمام فرصة أخيرة لإخراج البلاد من المأزق؟ لكن كيف ننتظر الخلاص بينما الخلافات الصغيرة تُلهينا وتضعفنا؟
القوة المدنية مطالبة اليوم – ليس غدًا فحسب – بأن تتخلص من هذه الصغائر. هذه ليست نصيحة شكلية، ولا دعوة لشعارات بلا مضمون؛ إنها مناداة أخلاقية وسياسية: تخلُّصوا من الأنانية الحسابية، ضعوا مصالح الشعب فوق مصائد المناصب، والمكاسب، اجمعوا على برنامج عمل واضح يحرر الوطن من براثن الحرب وتبعاتها. الشعب السوداني لم يعد له منجي غيركم، ولا حامٍ من دونكم. إن انتظار خارطة طريق تُرسم بعيدًا عنكم قد يعني ترك القرار لمن لا يهمهم سوى زيادة نفوذهم أو مدّ قواعدهم.
لا نَدَّعي أن الحل بسيط؛ فالمشهد متعدد الأبعاد، والمتصارعون كثيرون، والمتغيرات لا تتوقف. لكن البساطة في المطلب لا تُنقص من قِلّة المتابعة: إنقاذ الأرواح يجب أن يكون أول بند في أي تفاهم، واحترام القانون الدولي ينبني على محاسبة الانتهاكات، وإزاحة السلاح الثقيل عن المدن والقرى لا ينبغي أن يكون مفاوضة للتنازل. أما الحديث عن إعادة بناء الدولة أو إعادة توزيع النفوذ بعد الحرب فلا ينبغي أن يبدأ قبل التزام حقيقي بإيقاف القتل وإتاحة وصول المساعدات وحماية المدنيين.
ومن جهة أخرى، يجب على المجتمع الدولي أن يتحلّى بمزيد من صدق النوايا ووضوح المعايير. لا يمكن أن تكون المطالبة بوقف النار متزامنة مع دعم سري أو تحالفات تزوّد طرفًا على حساب آخر. إن من يريد السلام حقًا عليه أن يثبت ذلك بتصرفات لا تُخفي أجندات مضمرة. وإن كانت هناك مصالح استراتيجية لا تُحتمل التخلي عنها، فلتُصارَح الرأي العام بها، ولتُبحث بطريقة شفافة تُجنب الشعب السوداني أن يكون ورقة في لعبة الكبار.
لا ندعو ولا ندعي أننا بصدد تقديم وصفات جاهزة، بل لتركيز القلب والعين على حقيقة واحدة: ما يجري في مطابخ القرار ليس ترفًا معلوماتيًا لخبراء السياسة فحسب، بل قضية حياة وموت لشعب بأكمله. لا يكفي أن نقرأ بيانات تضجُّ بالتمنيات؛ نحتاج إلى إجراءات تقطع الشك باليقين. نحتاج إلى صوت عربي ودولي يواجه ازدواجية المعايير، ونحتاج إلى قوى مدنية سودانية تتبنّى مشروع إنقاذ وطني جامع، مشروع يضع الإنسان بالمقدمة، لا كوسيلة لابتزاز أو لمساومة على النفوذ.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأخطر: هل ستُختَرَع حلول تُرضي النوايا أو ستُوضع حلول تُنقذ حياة الناس؟ أمامنا فرصة – ربما الأخيرة – لأن يكون للضمير كلمة تُفضي إلى فعل حقيقي. وإلاّ فسنظل نروي للّذّاكرة قصصًا طويلة عن أحلامٍ ضاعت، وعن وطنٍ ظلّ يتخبط بين مناصبٍ ومصالح إلى أن خفت نورُه. هل يُسمع صوت هذا الوطن في مطابخ القرار؟ أم أن صوت الناس ظلّ مكتومًا بين طيّات المصالح؟
إن القوى المدنية اليوم تقف على مفترق تاريخي – صفحةٍ إما أن تُكتب لصالحها أو عليها. إن آمنت بحقٍّ بما تعلّمته من دروس الثورة، وعملت بإخلاصٍ لا يساوم، فسوف تنجو البلاد: فهذه الحرب ليست مجرد صراعٍ على مواقع أو نفوذ، بل محاولة مبرمجة لتصفية ثورة ديسمبر، واهراق ما تبقّى من روحها، وتسليم الوطن إلى ظلامٍ يمتدّ من مدنه إلى حدوده، ويحوّله مكبًّا لحركات التطرف والإرهاب من كل فجٍّ مجهول. حين توحّد الصفوف، وتشّدّ العُرى، وتقف القوى المدنية وقفةً واحدةً بكلمةٍ واحدة، فإنّها بصلابتها تلك ستقهر أطماع الخارج وتفشل مخططات الداخل المظلمة. أما إذا غرقت في صغائر الخلاف وحظوظ الأنانيات، وإذا انتُهِبت قيادتها في تباري المناصب، فستتهاوى بلا ريب إلى قاع الضياع، وحينذاك لا ينفع الندم ولا عضّ الأصابع. فالخيار أمامهم ليس ترفًا فكريًا، بل مسألة مصير: إما أن يكونوا منقذين لوطنٍ يكاد يلفظ أنفاسه، أو أن يكونوا شهودًا على دفنه بيديهم.