“الجنائية الدولية”.. العدالة تمشي على رمادها

عثمان فضل الله
نعمل بجد وتحقيقاتنا مستمرة بشأن الجرائم الأخيرة التي ارتُكبت في دارفور بعد حرب 15 أبريل، وقطعنا شوطاً مقدّراً في ذلك، وستصدر قائمة جديدة بالمتهمين فور انتهاء التحقيقات، هكذا قال جوليان نيكولز، المحامي الرئيس في مكتب الادعاء العام بالمحكمة الجنائية الدولية، خلال مؤتمر صحافي عُقد عبر تقنية الزوم، وكانت «أفق جديد» من بين حضوره.
كلماته كانت كفيلة بأن تُشعل في الذاكرة صوراً متداخلة: مجازر الجنينة، ضحايا طيران الكومة وأبوزبد، وأخرى لا تُحصى. القاتل هو ذاته، والمبررات هي ذاتها التي تُساق منذ العام 2003.
في لاهاي، حيث تتعانق المرافعات مع أنين الضحايا، وحيث تختلط برودة القانون بحرارة الدم، نطقت المحكمة الجنائية الدولية بإدانة طال انتظارها ضد علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ«علي كوشيب»، أحد أبرز قادة الجنجويد في دارفور.
لكن القاعة التي شهدت هذا الحكم لم تُغلق على لحظة عدالة مكتملة، بل فتحت باباً جديداً للأسئلة الموجعة: هل يمكن للعدالة أن تُزهر في أرضٍ ما زالت تنزف دماً؟ وهل يمكن أن يُطوى دفتر المأساة بينما تتكرر فصولها في الخرطوم والجزيرة ودارفور نفسها بعد حرب الخامس عشر من أبريل التي أعادت البلاد إلى قلب الجحيم؟
عدالة تمشي على رمادها
ما قاله نيكولز بأن «العدالة لن تكتمل ما دام بعض المتهمين طلقاء» بدا كأنه صدى بعيد لأصوات الضحايا الذين دفنوا أبناءهم بأيديهم منذ عقدين.
إدانة كوشيب لم تكن سوى نقطة ضوء في عتمةٍ كثيفة، بينما يقف عمر البشير ووزيراه أحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين خارج أسوار العدالة، كأنهم ظلال لا يطالها الزمن. ورغم تأكيد المحكمة أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، فإن الزمن في السودان بدا وكأنه حليف الجناة لا خصمهم؛ تتبدّل الأنظمة، تتغير الرايات، لكن الدم ذاته لا يزال يُسفك، والسلاح ذاته يُوجَّه إلى صدور الأبرياء.
منذ دارفور 2003 وحتى الخرطوم 2023، تبدو الجريمة ذاتها وقد غيّرت أسماءها فقط: الجنجويد صاروا «الدعم السريع»، والمليشيا الدارفورية تحوّلت إلى جيش، والضحايا بقوا كما هم — أناسٌ عاديون يُقتلون لأنهم في المكان الخطأ من جغرافيا الصراع.
القتلة يتوارثون الخراب
العدالة، في صورتها المثلى، يُفترض أن تكون ترياقاً للذاكرة، لكنها في السودان صارت مرآةً تعكس عمق الجرح واتساعه.
ما كشفته المحكمة في لاهاي لم يكن مجرد استدعاءٍ لماضٍ دامٍ، بل خريطة كاملة لآلية الشرّ التي ما تزال تعمل وإن تبدّلت أدواتها؛ فبينما كان كوشيب يحشد رجاله على ظهور الجمال، تُطلق اليوم الطائرات المسيّرة قنابلها فوق المدن، وتُتَّهم القوات المسلحة باستخدام الغازات السامة ضد المدنيين – كما تقول الولايات المتحدة وتشاد – مستندتين إلى أدلة تشير إلى استخدام غاز الكلور في مناطق مأهولة. وفي المقابل، تحصد آلة الدعم السريع أرواح المدنيين في الفاشر بلا رحمة.
الجرائم التي كانت تُرتكب في وديان دارفور، صارت تُرتكب اليوم في قلب الخرطوم، في أحياء يسكنها أناسٌ ظنوا أن المأساة بعيدة عنهم. إنها عدالة تمشي على رمادها، تُدين كوشيب في لاهاي بينما يُقصف الناس بالكلور في الخرطوم، وتُستعرض ملفات دارفور فيما تتكوّم الجثث في أسواق الفاشر، وتسقى رمال كردفان بدماء آلاف الشباب المغرر بهم.

مواجهة الزمن السوداني
لم تكن المحكمة الجنائية الدولية يوماً مجرد هيئة قضائية، بل هي أيضاً مؤشر أخلاقي على ما تبقّى من ضمير العالم.
ومنذ أن فتحت ملفات دارفور، ظلّ سؤالها الأكبر معلقاً:
هل سيأتي يومٌ يمثل فيه من أصدر الأوامر قبل من نفّذها؟
إدانة كوشيب خطوة رمزية في طريقٍ طويل تتخلله العقبات السياسية والمراوغات الدبلوماسية، لكنها تؤكد أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تنطفئ.
إنّ لاهاي اليوم تراقب السودان من جديد، لا بعين المؤرخ، بل بعين القاضي الذي يرى التاريخ يعيد نفسه على نحوٍ أشدّ فظاعة. ولعلّ الحرب الأخيرة منحت المحكمة مبرراً جديداً لتوسيع ولايتها، لتشمل كل من ارتكب جرائم حرب منذ 15 أبريل، مهما كان موقعه أو زيه أو رايته.
وحين سُئل وكيل الادعاء من «أفق جديد» عمّا إذا كانت المحكمة تعمل على التحقيق في جرائم ما بعد 15 أبريل، أجاب قائلاً:
«نعم، ولاية المحكمة مقتصرة على الجرائم المرتكبة في دارفور فقط، ولا تشمل أي جرائم خارج جغرافيا الإقليم، لكن أي شخص له علاقة بجرائم دارفور عبر سلسلة الأوامر ستطاله يد العدالة حتى وإن كان خارج الإقليم».
أصوات الضحايا
قال نيكولز في المؤتمر ذاته إن الأدلة التي قُدِّمت للمحكمة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن كوشيب لعب دوراً قيادياً في الهجمات الممنهجة ضد المدنيين في دارفور، مشيراً إلى أن جلسة النطق بالعقوبة حُددت في السابع عشر من نوفمبر المقبل، وأن العقوبة قد تصل إلى السجن مدى الحياة. وأضاف أن الحكم يمثل «اعترافاً دولياً بالجرائم المروعة التي شهدها الإقليم قبل عقدين»، مؤكداً أن العدالة لا تكتمل إلا حين يُقدَّم كل من تلطخت يداه بدماء الأبرياء إلى المحكمة.
وفي بيان لاحق، شدد مكتب الادعاء العام على أن ملف دارفور لم يُغلق بعد، وأن الروابط القانونية والجرمية بين كوشيب وأحمد هارون تظل واضحة في ضوء الأدلة الموثقة. ومع ذلك، أوضح نيكولز أن هارون لا يزال متهماً حتى تثبت إدانته، وأن المحكمة ستواصل العمل بلا هوادة لتحقيق العدالة للضحايا جميعاً.
أما داهيرو سانت آنا، مستشار التعاون الدولي بالمكتب، فكشف عن فتح تحقيق جديد بشأن الجرائم الحديثة في غرب دارفور التي اندلعت عقب الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، مشيراً إلى أن المحكمة تواجه صعوبات كبيرة بسبب انعدام الأمن واستمرار النزاع. وقال إن فريق الادعاء «لم يتمكن من دخول دارفور، لكنه استند إلى شهادات موثوقة وأدلة مادية قوية، وهو ما يؤكده هذا الحكم نفسه». كما ناشد الحكومة السودانية التعاون الحقيقي مع المحكمة لتسليم المشتبه بهم، لأن المحكمة – كما قال – «لا تملك قوة تنفيذية، وتعتمد على التزام الدول الأعضاء».
من جهة أخرى، حاول سيريل لوتشي، المحامي الرئيسي للدفاع، أن يرسم صورة مغايرة تماماً، فتمسك بأن موكله ليس هو كوشيب، بل مجرد صيدلي من مدينة غارسيلا لا علاقة له بميليشيا الجنجويد ولا بالمجازر التي شهدها الإقليم. وأوضح أن موكله سلّم نفسه طوعاً للمحكمة في أفريقيا الوسطى عام 2020 “بحثاً عن العدالة”، بعد أن خشي أن يكون كبش فداء لصراعات أكبر منه.
وأضاف أن الدفاع لا ينكر وقوع الجرائم في دارفور، لكنه يرفض تحميل المسؤولية عنها لشخص واحد، مؤكداً أن الفريق القانوني يدرس الحكم بتفاصيله تمهيداً لاحتمال الاستئناف في ظل تعقيدات الحرب التي تمنع استدعاء شهود جدد.
في المقابل، عبّرت ناتالي فون ويستينغهاوزن، الممثلة القانونية للضحايا، عن مشاعر مختلفة تماماً. وصفت الحكم بأنه «ومضة أمل بعد عقدين من الصمت والألم»، وقالت إنها بثّت جلسة النطق بالحكم في القرى التي شهدت المجازر – في كتم ومكجر ودليج – فبكى الناس حين رأوا القضاة ينطقون بالحكم، لا لأن العدالة اكتملت، بل لأنهم شعروا أن العالم تذكّرهم ولو للحظة. وأضافت بأسى: «الضحايا يعرفون أن الطريق طويل، وأن الحكم قد يُستأنف، لكن الألم لا يُستأنف أبداً».
تباينت الرؤى بين الادعاء والدفاع والضحايا، لكن الجميع اتفق على أن المحكمة الجنائية الدولية دخلت اليوم مرحلة جديدة من تاريخها مع دارفور؛ فبينما رآه الادعاء خطوة تمهد لملاحقة بقية المتهمين، وصفه الدفاع بالحكم القابل للطعن، فيما عدّه الضحايا بداية طريقٍ طال انتظاره.
نحو لاهاي جديدة
العدالة التي بدأت في دارفور مطالَبة اليوم بأن تدخل الخرطوم نفسها، لتنظر في جرائم تُرتكب في وضح النهار ضد المدنيين باستخدام أسلحة يُحرّمها القانون الدولي. تشاد طالبت رسميًا بالتحقيق، وواشنطن تحدثت عن أدلة قوية، بينما الحكومة تنكر، والعالم يتفرج كأنه يشاهد فيلماً يعرف نهايته من قبل.
لكنّ الاختلاف هذه المرة أن السودان لم يعد يحتاج إلى شاهد خارجي؛ فكل شارع، وكل مستشفى، وكل رائحة غاز في الهواء صارت دليلاً مادياً على جريمة تُرتكب بلا خوف من العقاب.
إنّ استمرار الصمت أمام استخدام الأسلحة الكيماوية ليس جريمة أخلاقية فحسب، بل هو امتداد لسياسة الإفلات من العقاب التي غذّت الحرب الأولى في دارفور. وإذا لم تتحرك العدالة الدولية بسرعة أكبر، فستغدو لاهاي أرشيفاً للدم أكثر من كونها محكمة للعدالة.
من دارفور إلى الخرطوم، ومن مكجر إلى مدني، يسير السودان في دائرة مغلقة من العنف، كأنما كُتب عليه أن يكرّر مأساته جيلاً بعد جيل.
لكنّ صوت المحكمة في لاهاي، مهما بدا بعيداً، يظلّ وعداً أخلاقياً بأن الحقيقة لا تُدفن. فإذا لم يكن في الأرض من يسمع أنين الضحايا، فثمة في العالم من يكتب شهادتهم في سجلّ العدالة.
إنّ كوشيب ليس آخر المذنبين، كما أن الحكم عليه ليس نهاية الحكاية؛ فالعدالة التي بدأت بدماء دارفور لن تكتمل إلا حين يمثل كل من تلطخت يداه بالكيماوي أو بالنار أمام قوس العدالة نفسها – في لاهاي، أو في الخرطوم التي تنتظر قبس نورٍ يُعيد إليها وجهها الإنساني المفقود.
وفي انتظار ذلك النور، سيبقى صوت الضحايا هو البوصلة الوحيدة في ليل السودان الطويل.





