“المجانين” حين يتحول الدم السوداني لمجرد سلعة في سوق السياسة
أفق جديد
عند مضارب أجداده، حيث سعى جاهداً في إبعاد شبح الحرب عن أهلها في منطقة “المزروب” بولاية شمال كردفان، حيث تنصب آلة الموت خيامها ويدفن الجميع برمال “العبث”، وبعد صلاة الجمعة وُضعت مسيرة نهاية لحياة الناظر سليمان سهل، ناظر قبائل المجانين في كردفان، أثناء إجتماع أهلي اختلفت التفسيرات حول القضية التي يريد مناقشتها.
منذ إندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، إنحاز الناظر سهل إلى مواطني بلدته، رافضاً كل دعوات التجييش والتسليح من طرفي الحرب، وظلت “المزروب” معقل قبيلة المجانين، منطقة خالية من المسلحين، تدير شؤونها الإدارات الأهلية، مما جعلها مركزاً تجارياً آمناً وشريان حياة يغذي مختلف المناطق في ولايتي غرب وشمال كردفان وبعض البلدات في إقليم دارفور بالبضائع والمواد التموينية.
في 17 أكتوبر 2025، قُتل ناظر قبيلة المجانين الشيخ سليمان جابر جمعة سهل مع نحو 16 من مرافقيه خلال استهداف إجتماع أهلي في منطقة المزروب بولاية شمال كردفان بطائرة مسيّرة. وقع الهجوم في منطقة تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، التي تتهم الجيش السوداني بتنفيذه، بينما ينفي الجيش ذلك ويتهم قوات الدعم السريع بالتورط في العملية.
مجلس السيادة الانتقالي السوداني وصف مجزرة المزروب بأنها “هجوم غادر” استهدف رموز الإدارة الأهلية في محاولة لتقويض السلام المجتمعي. من جهته، دان تحالف “تأسيس” القائم على دعم الدعم السريع الهجوم واعتبره تصعيدًا خطيرًا في النزاع، مؤكدًا أن المدنيين وقيادات القبائل وقعوا ضحايا في الحادث.
في الوقت الذي غرقت فيه بلاد كاملة في الحزن والوجع نتيجة الموت الفاجع لقيادات المجانين الذين فقدوا كامل قياداتهم الأهلية في بلد لم تعد فيه سلطة رسمية، تم تحويل الدماء المراقة فوق رمال المزروب لرافعة جديدة في نزاع أطراف الحرب، ولحدٍ ما المكونات السياسية.
بيان تحالف “تأسيس” الدعم السريع ومناصريه اتهموا الجيش بأنه المسؤول عن المسيرة التي تمثل امتدادًا للمسيرات التي تستهدف ما عبّروا عنه بـ”الحواضن”، وفي هذا السياق تابعت “أفق جديد” عددًا من التسجيلات التي تقول بأن المسيرة انطلقت من قيادة الجيش في الأبيض، بل إن بعض داعمي الجيش نسبوا تصفية الناظر بسبب موقفه الداعم للمليشيا، وقالوا إنها خيانة تستحق القصاص، قبل أن يتراجعوا لاحقًا عن الموقف عقب البيانات الرسمية لمجلس السيادة، وهو البيان الذي وصفه البعض بـ”يقتل القتيل ويمشي في النعش”.
وفي تحول دم المجانين لمجرد سلعة في سوق النزاع بين “البلابسة والجغامسة”، يمكن متابعة بيانات المؤسسات في بورتسودان، وبالطبع داعمي الجيش في معركته، وهم يوجهون أصابع الاتهام نحو مسيرات الدعم السريع بأنها المسؤولة عن مقتل الناظر ومرافقيه، والمبرر أن الأخير رفض الانخراط مع مشروع آل دقلو، داعمين رؤيتهم بفيديوهات تشير إلى مواجهات بين جنود في الدعم السريع تم قتلهم بعد محاولات نهب داخل المزروب، وهو ما أدى لتفاقم الأوضاع لاحقًا، وبالنسبة للبلابسة فإن المجانين جزء من تكوين الدولة السودانية وداعمون للقوات المسلحة في معركة الكرامة.
طرفا النزاع حاولا توظيف الحدث من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ومن المفارقات أن مكسب أي منهما هو توضيح أن الطرف الآخر أكثر ممارسة للانتهاكات من الآخر، وهو الأمر الذي تؤكده مسارات الحرب منذ طلقتها الأولى، وتشهد عليه سلسلة الضحايا والمجازر المرتبطة بقوات الدعم السريع أو تلك التي كانت نتيجة لقصف طيران ومسيرات الجيش والتي يدفع فاتورتها المدنيون.
تبادل كل من مجلس السيادة وقوات الدعم السريع الاتهامات بشأن مقتل سليمان جمعة جابر سهل، ناظر قبيلة المجانين، والعشرات من أعيان القبيلة الجمعة (17 أكتوبر 2025م).
واتهمت قوات الدعم السريع الجيش بتنفيذ هجوم بطائرة مسيّرة استهدف مدنيين في منطقة المزروب، الخاضعة لسيطرتها بولاية شمال كردفان، ما أسفر عن مقتل العشرات، من بينهم الناظر وعدد من قيادات الإدارة الأهلية وأعيان قبيلة “المجانين”.
ومن جهته أعلن مجلس السيادة السوداني مقتل أميرٍ وأعيانٍ من قبيلة المجانين إثر هجوم قال إن قوات الدعم السريع شنّته على منطقة المزروب بشمال كردفان، وتبادل الإتهامات ما بين الطرفين يؤكد على حقيقة لا يمكن الصعود عليها، وهي أن المسيرات التي تقتل المدنيين هم وحدهم من يمتلكونها ويعيدون تشغيلها، ما يجعلهم المسؤولين بشكل مباشر عن الضحايا.
في أروقة القبيلة تعيد تسمية محمد، نجل الراحل سليمان، ناظراً لها لإكمال مشروع والده في رعاية شؤون منسوبيها ومحاولة الحفاظ عليهم بعيداً عن مرمى الموت، وفي ظل تحديات كبرى تواجه النسيج الإجتماعي في البلاد بفعل الحرب وتداعياتها، ومنها المسيرة الأخيرة، مقروناً كل ذلك بمسارات تتعلق بالتحقيق وتحديد الجناة وبالطبع معاقبتهم على ما إقترفوه من جريمة.
جريمة المزروب تتحول مثل غيرها من جرائم أطراف الحرب لمجرد “تريند” يتبادل فيها الجميع الاتهامات بموالاة طرف على حساب الآخر، وتتراجع جدليات الكرامة والديمقراطية لصالح نزاعات القبائل وخشم البيوت، يفتح الجحيم أبوابه في انتظار ضحايا جدد، والقصة ستتحول كغيرها من القصص لمحطة يتم فيها إعادة “التمركز” بين طرفي النزاع، فيديوهات يعلن أصحابها دعمهم الكامل لتحالف “تأسيس” والدعم السريع، وأخرى يعلن أصحابها التزامهم جانب الجيش، والجميع هنا ينطلق فقط من مصلحته الذاتية غير مبالٍ بحياة ناسٍ هم للموت أقرب منهم للحياة.
مضى الناظر لموته، و إختار رفاقه المغادرة مع من لم يغادرهم، وظل بينهم ذهب “سليمان” المولود سنة 1958 في ذات الدار التي خرج منها من يبصم على إقتراح إعلان السودان دولة حرة مستقلة “مشاور جمعة سهل”، دون أن يجد إجابة لسؤاله في زمن الثارات: لماذا يقتل بعضنا بعضاً؟ وما بال السلاح الذي اخترناه لحمايتنا ينغرس في أحشائنا؟
في البلاد التي تفتقد العقلاء، هل سيتحول دم “المجانين” لوقود جديد لدماء لن تتوقف ويصبح مجرد سلعة في سوق “البلابسة والجغامسة” يوظفونها من أجل المزيد من الدم؟ أم ينتهي به الأمر لمجرد “تريند” في إنتظار تريند جديد مكتوب أيضاً بالدم؟