حين تُداوي اللاجئة جراح الآخرين.. مها مسند ممرضة سودانية تحوّل الألم إلى أمل في أمريكا

بقلم: ريبيكا جريبفين
لا شيء تقريبًا يمكنه أن يُثني مها مسند عن المضي قدمًا. لا المسافة الطويلة التي قطعتها إلى الولايات المتحدة، ولا الطريق الشاق للحصول على ترخيص مزاولة التمريض، ولا الحرب المشتعلة في وطنها السودان، ولا حتى جائحة عالمية بدأت بعد شهر من وصولها.
بابتسامتها الدافئة وإيمانها العميق بالمستقبل، انتقلت مسند من شوارع الخرطوم إلى مدينة كلاركستون بولاية جورجيا، حيث كان عام 2025 نقطة تحول في حياتها؛ نالت الجنسية الأمريكية، واجتازت امتحان الترخيص، لتبدأ عملها كممرضة معتمدة في مركز “موزاييك” الصحي الذي تُكن له محبة كبيرة.
كانت مسند قد بنت مسيرة مهنية ناجحة في الخرطوم، إذ كانت تُدرّس التمريض، وتعيش وسط عائلتها وزوجها وأطفالها الثلاثة بالقرب من والديها وإخوتها. ومع ذلك، كان في داخلها حلم أكبر. تقول:“بالنسبة لي وللكثيرين، تُعدّ أمريكا حلمًا كبيرًا. عندما نأتي إليها، نبحث عن وطن جديد.”
في العام الماضي فقط، تقدم نحو 60 ألف ممرض وممرضة من خارج الولايات المتحدة لاجتياز امتحان المجلس الوطني للترخيص. ومع النقص الحاد في الكوادر التمريضية داخل البلاد، تحتاج ولاية جورجيا وحدها إلى أكثر من 770 ممرضًا إضافيًا سنويًا لتلبية الطلب. قصة مها تُظهر كيف يمكن للممرضين الأجانب أن يسهموا في سد هذه الفجوة.
في مركز موزاييك، حيث تقدم الرعاية الصحية لغير المؤمن عليهم، استطاعت مها بفضل شخصيتها الودودة وطريقتها البسيطة في الشرح أن تبني علاقة خاصة مع مرضاها. فهي تتحدث إلى المهاجرين العرب بلغتهم الأم، وتُبسّط المفاهيم الطبية، وتمنحهم ما يفتقده كثيرون: الوقت والتفهّم.
كانت مها تدعو يوميًا في طريق عودتها من العمل بالخرطوم أن تفوز بتأشيرة الهجرة إلى أمريكا. فالبرنامج المعروف باسم “يانصيب الهجرة المتنوعة” يمنح سنويًا نحو 50 ألف تأشيرة لمتقدمين من دول ذات معدلات هجرة منخفضة. تقول مازحة: “حتى صديقاتي كنّ يدعين لي بالفوز.”
تحقق الحلم أخيرًا، ووصلت العائلة إلى شرق ماريلاند عام 2020، لتجد الولايات المتحدة مغلقة بسبب جائحة كوفيد. لكن مسند لم تتوقف، فطرقت أبواب المستشفيات حتى وجدت فرصة عبر نافذة صغيرة مفتوحة بسبب القيود الصحية. شرحت لهم أنها كانت ممرضة في السودان، فعُرضت عليها وظيفة مساعدة طبية، لتبدأ رحلة جديدة من التعلم، أتقنت خلالها الإنجليزية، وحصلت على شهادة مساعدة تمريض معتمدة.
خلال عملها، تعرّفت على ممرضين دوليين أخبروها بخطوات الحصول على رخصة التمريض الأمريكية، فبدأت إعداد نفسها لاجتياز اختبار NCLEX رغم صعوبته.
حصل زوجها على وظيفة في أتلانتا، فانتقلت العائلة إلى كلاركستون. كانت مها تزور المكتبة العامة يوميًا بحثًا عن فرص عمل، حتى اكتشفت عبر الإنترنت أن عيادة موزاييك تقع على بُعد دقائق فقط. وكعادتها، طرقت الباب مرة أخرى، وهذه المرة فُتح لها، لتصبح ضمن فريق المركز.
تقول مها:“عليك أن تتحرك وتبحث عن الطريق، وإن لم يُفتح باب، فهناك دومًا آخر ينتظرك.”
في عملها الجديد، واجهت اختبار الترخيص للممرضين للمرة الأولى ولم تنجح، شأنها شأن كثيرين من الممتحنين الدوليين. لكن دعمها لم يتوقف؛ فقد بادر المدير التنفيذي لمؤسسة موزاييك، جيريمي كول، إلى تنظيم دروس دعم لها بمساعدة أساتذة من كلية التمريض في جامعة إيموري. يقول كول: “كان الأمر طبيعيًا، فهي تجسّد أفضل ما في أمتنا بتنوعها.”
التحقت بها الأستاذة بيث آن سوان من كلية التمريض بجامعة إيموري، التي رأت في مها قصة تذكّرها بممرضات أجنبيات درّبنها في بداياتها. تعاونت سوان وزميلتها شارون مينجو مع مها، وبفضل جهودهما، اجتازت امتحان NCLEX في أبريل، بعد ثلاثة أشهر فقط من حصولها على الجنسية الأمريكية.

رد الجميل
لم تنسَ مها ما مرت به، فأسست ثلاث مجموعات “واتساب” لمساعدة الممرضات الأجنبيات على تجاوز العقبات التي واجهتها. إحداها تُرسل أسئلة تدريبية بالعربية، وأخرى تشرح خطوات التقديم للترخيص والعمل في الولايات المتحدة.
في عيادة موزاييك، باتت مها وجهًا مألوفًا واسمًا محببًا. المرضى يسمونها “شعبنا”، وهي تُعاملهم كأهلها. يقول كول إن العيادة شهدت ارتفاعًا في عدد الزيارات هذا العام بما يقارب 600 زيارة إضافية. ومع ازدياد الجالية السودانية والعربية، أصبحت مها صلة الوصل بين المريض والطبيب.
تقول:“حين يراني المرضى وأتحدث إليهم بلغتهم، يشعرون بالثقة والراحة. إنهم يؤمنون بي.”
تُقابل مها مرضى يشككون في الطب الحديث أو يفضلون العلاجات التقليدية، فتمضي معهم وقتًا طويلًا لتوضيح المفاهيم بلغة بسيطة. بالنسبة لها، التفاهم الثقافي جزء من العلاج.
كما يحرص طاقم موزاييك على متابعة المرضى بالاتصال بهم بعد الزيارات، للتأكد من التزامهم بالأدوية. يصف كول ذلك بقوله:
“نحن نؤمن بأن الرعاية الصحية تحوّل حياة الناس، وليست مجرد معاملة.”
ما بعد العلاج.. الدعم النفسي
تقول مها إن كثيرًا من مرضاها يعانون من قلق دائم بسبب أوضاعهم القانونية أو الاقتصادية.“يأتي إلينا مريضان أو أكثر يوميًا فقط ليبكوا. يحتاجون إلى من يسمعهم.”
بصفتها مهاجرة، تفهم مها ما يعنيه التمسك بالحلم الأمريكي رغم الخوف من فقدانه. وتختم حديثها قائلة:“الناس هنا يعيشون بأحلام كبيرة. لكن الخوف من خسارتها يجعلهم بحاجة إلى من يطمئنهم.”ويؤكد كول أن هذا الإحساس بالقلق منتشر في المجتمع، وأن التزام موزاييك بالعناية الكاملة بالإنسان هو ما يجعل المرضى يعودون دائمًا.
تقول مها بابتسامة:“نحن لسنا كأي منشأة أخرى. نمنح المرضى الوقت، نصغي إليهم، ننصحهم، ونحبهم.”
نقلا عن هيلث بيت





