إعمار الخرطوم يتطلب 130 مليار دولار… فاتورة لا يستطيع السودان سدادها

بقلم محمد الأمين وسيمون ماركس – بلومبيرج
من المتوقع أن يعود ما يقرب من مليوني شخص إلى العاصمة السودانية الخرطوم بحلول نهاية هذا العام، لكن ما ينتظرهم ليس الوطن الذي غادروه، بل مدينةٌ أنهكتها الحرب، تُركت بيوتها للنهب، وشوارعها للخراب، وبنيتها التحتية للانهيار، فيما تندر المساعدات وتتضاءل فرص التعافي.
في الشهر الماضي، أغلقت سهير صالح، صاحبة مخبز صغير في القاهرة، باب رزقها الأخير، واستقلت القطار جنوبًا نحو الحدود السودانية، عائدةً إلى مدينتها التي لم تعد تعرفها. تقول سهير، البالغة من العمر 40 عامًا:
“بعد عامين من النزوح والمعاناة، عدت إلى بيتي في الخرطوم، لكنني وجدته منهوبًا بالكامل. الحياة صعبة جدًا، لكن العودة رغم كل شيء تمنحني الأمل.”
سهير واحدة من نحو مليوني سوداني تتوقع الأمم المتحدة عودتهم إلى العاصمة خلال الأشهر المقبلة، بعد أن تمكن الجيش السوداني من استعادة السيطرة عليها من قوات الدعم السريع في مارس الماضي. غير أن الخرطوم، التي كانت قلب البلاد النابض، باتت اليوم أطلالًا: منشآت مدمرة، أمراض متفشية، وميليشيات ما تزال تجوب الشوارع، فيما تستمر هجمات الطائرات المسيّرة المتقطعة في بثّ الرعب.
رغم ذلك، يؤكد الجيش عزمه على إعادة بناء المدينة، حتى مع استمرار القتال ضد قوات الدعم السريع في حربٍ أودت بحياة أكثر من 150 ألف شخص، وأجبرت نحو 14 مليونًا على النزوح، وتسببت في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
لكن تكلفة إعادة الإعمار وحدها تُقدّر بـ 130 مليار دولار، وهو رقم يفوق قدرة السودان المنهك اقتصاديًا. وحتى الآن، لم تتمكن حملات التمويل الدولية من جمع سوى القليل، بينما تتآكل الثقة بين الحكومة والمجتمع الدولي.
تقول خلود خير، مؤسسة مركز كونفلوانس البحثي، إن “السلطات تشجع المواطنين على العودة، لكنها لم تُوفر لهم ما يضمن الاستقرار أو البنية التحتية أو الخدمات الأساسية”.
وتضيف: “الناس يعودون بدافع الحنين، لا لأن الظروف مهيأة.”
معظم العائدين جاؤوا من مصر، حيث لجأ مئات الآلاف من السودانيين منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. غير أن العودة من دول أخرى ككينيا وأوغندا ما تزال محدودة، خاصة للأسر التي لديها أطفال أو مرضى يحتاجون إلى رعاية طبية.
ويحذر ديفيد ميليباند، رئيس لجنة الإنقاذ الدولية، بعد زيارته للسودان في سبتمبر، من حجم المأساة، قائلاً:”هناك شعور بأن البلاد قد انهارت بالكامل. إعادة إعمار الخرطوم مهمة ضخمة، وكثير من العائدين يجدون أنفسهم مجبرين على مغادرتها مرة أخرى بسبب سوء الأوضاع.”
الدمار في العاصمة واسع النطاق: المتحف الوطني نُهب بالكامل، وفندق كورينثيا، أحد أبرز معالم المدينة، تحول إلى كتلة رماد بعد قصف متكرر. كما لحقت أضرار جسيمة بمساجد تاريخية وقصر عثماني وجسور حيوية تربط ضفتي النيل.
ورغم جهود محدودة يقودها الجيش لتنظيف الشوارع، ما تزال الكلاب الضالة تتغذى على الجثث المتحللة في بعض الأحياء، مما فاقم انتشار حمى الضنك والكوليرا وسط المجتمعات العائدة.
يقول الجيش إنه أعاد تشغيل نحو ثلث شبكة المياه في العاصمة، لكنها لا تكفي لتلبية الطلب المتزايد. وفي سبتمبر، استهدفت طائرات مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع محطات كهرباء ومصفاة نفط رئيسية، مما أدى إلى تفاقم الانقطاع المستمر في الخدمات.
في أم درمان، يروي بهاء الدين معاوية، الذي رفض مغادرة منزله رغم القصف، تفاصيل ليلة مروعة:”كنت أستعد لصلاة الفجر عندما ضربت طائرات مسيّرة محطة كهرباء قريبة. كان صوت الانفجار مهولاً، استيقظ أطفالي وهم يصرخون. لم نعد نعرف الأمان حتى في بيوتنا.”
تكشف تقديرات أولية أن إعادة إعمار السودان ستتطلب استثمارات تعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب، الذي لم يتجاوز 50 مليار دولار. وحدها البنية التحتية النفطية تحتاج إلى نحو 20 مليار دولار لإعادة تشغيلها، فيما سيكلف إصلاح مطار الخرطوم الدولي ما لا يقل عن 3 مليارات دولار بعد أن دُمر مدرجه ومحطاته في الأيام الأولى للحرب.
تقول مصادر دبلوماسية إن الحكومة السودانية قدمت للمجتمع الدولي خطة أولية لإعادة الإعمار بتكلفة إجمالية تصل إلى 130 مليار دولار. وقد أبدت دول مثل روسيا، الصين، مصر، السعودية، قطر، تركيا وإيران استعدادها للمشاركة في إعادة البناء، لكن جميعها اشترطت وقف الحرب أولاً وضمان الأمن الكامل على الأرض.
ويرى أمجد فريد، رئيس مركز “فِكرة للدراسات والتنمية”، أن السودان يحتاج إلى أكثر من الأموال لإعادة الإعمار، موضحًا:”حتى تُفتح أبواب الدعم الدولي، يجب أن تبنى الثقة أولاً بين المانحين والحكومة. اليوم لا توجد هذه الثقة، والنتيجة أن المواطن السوداني هو من يدفع الثمن.”
في شوارع الخرطوم المدمرة، تبدو الحياة كأنها تسير في مدينة أشباح. أكوام الركام تحجب الواجهات القديمة، والأسواق تفتح لساعات محدودة تحت حراسة عسكرية. وبرغم مشاهد الخراب، فإن من يعودون إلى المدينة يقولون إنهم يجدون في العودة كرامةً مفقودة أكثر مما يجدون فيها راحةً مادية.
تقول سهير صالح، وهي تنظر إلى منزلها الذي رممته جزئياً:”قد لا أملك شيئًا، لكنني على الأقل عدت إلى تراب بلدي. الخرطوم مدمرة، لكنها ما زالت قلبي.”





