المتهم الأول
من على الشرفة

بقلم: طاهر المعتصم
لم تكن قوات الدعم السريع التي ظهرت رسميًا عام 2013 كيانًا عسكريًا عابرًا، بل ثمرة مباشرة لسياسات اتخذها نظام الرئيس المعزول عمر البشير منذ سنوات الحرب في دارفور. فقد مثّل تأسيس هذه القوة نقطة تحول خطيرة في بنية الدولة السودانية، إذ دشّن لمرحلة جديدة من عسكرة السياسة وخصخصة العنف، عبر تحويل الميليشيات القبلية إلى ذراع نظامية خارج السيطرة المؤسسية للقوات المسلحة.
بدأت البذرة الأولى في مطلع الألفية الجديدة، حين لجأ نظام البشير إلى تسليح ميليشيات محلية لمواجهة حركات التمرد في دارفور. كان الهدف آنذاك حسم الحرب بسرعة وبكلفة سياسية أقل، لكن النتيجة كانت تأسيس جيش موازٍ داخل الدولة. وعندما أصدر البشير قراره في عام 2013 بإنشاء “قوات الدعم السريع” تحت مظلة جهاز الأمن والمخابرات، وسن لها قانون اجازه البرلمان وقتها، كان في الواقع يؤسس لقوة ذات ولاء شخصي للنظام، لا تخضع لتراتبية الجيش ولا لمحاسبته .
مع مرور الوقت، اكتسبت هذه القوة نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا هائلًا، بفضل الدور الذي لعبته في حماية النظام، وتأمين مناطقه عدة، والمشاركة في حروب إقليمية مثل اليمن. وهكذا تحولت من ميليشيا مكافحة التمرد إلى فاعل سياسي–اقتصادي مستقل يمتلك مصادر تمويله الخاصة وشبكات نفوذه الداخلية والخارجية.
هذه النقلة لم تكن ممكنة لولا غطاء الشرعية الذي وفره البشير نفسه. فقد كان الرئيس المعزول يرى في الدعم السريع أداة لحماية سلطته من احتمالات التمرد داخل الجيش النظامي أو الانقلاب عليه من الداخل. وبذلك، أصبحت القوات الجديدة درع النظام وتهديد الدولة في آنٍ واحد: درع ضد الخصوم، وتهديد لمبدأ وحدة القيادة العسكرية.
بعد سقوط نظام البشير في 2019، ورغم الجهود التي بُذلت لإعادة هيكلة المنظومة الأمنية واخرها الاتفاق الإطاري، ظل إرث الدعم السريع قائمًا. بل إن الحرب التي اندلعت في 2023 بين القوات المسلحة والدعم السريع لم تكن سوى النتيجة الطبيعية لتلك السياسة القديمة التي أطلقت العنف من عقاله وخلقت جيشين متنازعين داخل حدود الدولة الواحدة.
تحمل التجربة السودانية هنا دلالة واضحة: أن تفويض الدولة لميليشيا ما، ولو بغطاء قانوني مؤقت، يعني التنازل التدريجي عن سيادتها. فالدعم السريع لم ينشأ من فراغ، بل من قرار سياسي مباشر اتخذه عمر البشير، منح بموجبه سلطة العنف لجهاز خارج الجيش، ثم حاول لاحقًا توظيفه كأداة حكم. وبذلك، يمكن القول إن المتهم الأول في مأساة السودان الراهنة هو الرئيس المعزول نفسه، لأنه أرسى الأسس القانونية والعملية لقيام هذه القوة، وسمح بتحولها من ذراع أمنية إلى كيان عسكري ينافس الدولة على شرعيتها.
اليوم، وبينما يعيش السودان واحدة من أكثر مراحله دموية وانقسامًا، تبدو مسؤولية البشير عن تأسيس هذا المسار جلية. فالرجل الذي حكم البلاد لثلاثة عقود من الطوارئ والحروب ترك وراءه بنية أمنية مشوهة، قوامها الولاءات لا المؤسسات، والقوة لا القانون. وربما تكون هذه هي المفارقة الأكبر: إن من أنشأ الدعم السريع لحماية نظامه، فتح الباب لانهيار الدولة نفسها.
إن قراءة جذور الأزمة الحالية لا تكتمل دون الاعتراف بأن الدعم السريع هو نتاج مباشر لعقيدة الحكم التي رسخها البشير منذ مطلع الألفية: حكم يستند إلى تقسيم مراكز القوة لا توحيدها، وإلى عسكرة المجتمع بدل بناء مؤسساته. وبذلك، فإن البشير هو المتهم الأول ليس فقط في ملفات الفساد أو جرائم الحرب، بل في تفكيك الدولة السودانية وتحويل جيشها إلى ساحة صراع بين من صنعهم بيده.





