الفاشر… حين يفضح الهامش مركزه

حاتم أيوب أبو الحسن

بقلم : حاتم أيوب أبو الحسن

مقدمة:

في خضمّ الدمار الذي يبتلع المدن السودانية، تبرز الفاشر كمرآة تعكس جوهر المأساة الوطنية. ما جرى هناك ليس مجرد حادثةٍ عابرة في حربٍ طويلة، بل شهادةٌ دامغة على فشل مشروع السلطة المركزية في بناء دولةٍ جامعة. فالفاشر لم تُحاصر بالسلاح وحده، بل بتاريخٍ طويلٍ من الإقصاء والتهميش والتوظيف القبلي الذي حوّل السياسة إلى غنيمة، والوطن إلى رقعة تنازع الولاءات.

ما حدث في الفاشر لم يكن حادثًا معزولًا، بل تجلٍّ واضحٌ لجذر الأزمة السودانية. فالمركز السياسي الذي تشكّل منذ فجر الاستقلال ظل مشروعَ سلطةٍ لا مشروعَ دولة، استبدل المؤسسات بالولاءات، والسياسة بالقبيلة، والإرادة الوطنية بالأدوات الإثنية والجهوية. ومع مرور الزمن، تحوّلت تلك البنية إلى منظومة مغلقة تُعيد إنتاج نفسها عبر الصراع لا عبر الإصلاح والتطوير.

إن ما تشهده الفاشر اليوم هو الوجه الآخر لما جرى في عنبر جودة، والجنينة، وتوريت، والجزيرة، وكجبار، والخرطوم. باختلاف مواقيتها وظروفها، كانت جميعها تعبيرات عن ثقافةٍ مركزيةٍ سلطويةٍ غاشمة، نسجت خيوط سمومها نحو الأطراف، وأرسلت الجحافل لعقودٍ طويلة، ثم عادت لتجد نفسها في هجمةٍ مرتدةٍ أفقدتها السيطرة على مركز القرار نفسه الذي أصبح مكان الصراع، تاركةً الأطراف تواجه مصيرها في دوامة الدم والدمار.

فحين تصبح القبيلة أداةً للحكم، يتحوّل الوطن إلى ساحة نزاعٍ مفتوحةٍ لا وطنٍ جامع، وحين يُختزل الانتماء في الجغرافيا، تُمحى فكرة الدولة نفسها.

وسط هذا الخراب الممتد، يطلّ الألم الإنساني كأعمق شاهدٍ على فشل المنظومة السياسية القديمة. فالحرب التي تحرق المدن اليوم ليست إلا نتيجةً مباشرةً لسياسات الإقصاء والهيمنة، حربُ الكلّ ضدّ الكلّ، حربٌ كشفت عُري الفكرة المركزية التي حكمت السودان عقودًا طويلة باسم الدولة، بينما كانت تُفكّكه باسمها وثرواتها وسلطتها التي أصبحت اليوم منتهية الصلاحية، مجافيةً لروح العصر.

ورغم قسوة المشهد، تظل في هذه المأساة فرصةٌ نادرةٌ لولادةٍ جديدة. فربما تكون هذه الحرب – رغم فظاعتها – الحدَّ الفاصل بين وطنٍ يُعاد إنتاجه في الخراب، ووطنٍ جديدٍ يولد من وعيٍ مختلفٍ يدرك أن كسر مراكز القوة ليس هدمًا، بل شرطًا للحياة.

إن التاريخ لا يعود إلى الوراء، لكنه يمنح فرصًا قليلة لإعادة التأسيس والمراجعة. وإذا التقط السودانيون لحظتهم هذه، فإن الدماء التي سالت لن تذهب هدرًا، بل ستتحوّل إلى حبرٍ يكتب ميلاد وطنٍ تُحكمه العدالة لا الغلبة، وتُبنى مؤسساته على فكرة الإنسان لا السلطة، وتكون وحدته طواعيةً لا قسرًا، وازدهاره بالعمل لا بالمحسوبية، واستقراره باستيعاب دروس التاريخ لا تكرار مآسيه.

نداء إنساني:

أيها السودانيون، من قلب هذا الليل الطويل ما يزال هناك متّسعٌ للفجر.

لا تجعلوا الحرب قدرًا أبديًا، ولا تسمحوا للدم أن يكون لغتكم الوحيدة.

افتحوا نوافذ العقل قبل البنادق، وابنوا وطنكم بالحوار لا بالثأر.

فكلّ قطرة دمٍ تُسفك اليوم هي من جسد الوطن نفسه.

إن السودان لا يحتاج إلى من ينتصر فيه، بل إلى من يُنقذه من نفسه…. 

نعود

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى