بكل عقلانية وشفافية.. وهم الحسم العسكري وضرورة إنقاذ الوطن

بقلم : حيدر المكاشفي

تجاوزت حرب السودان العامين ونصف العام وتدخل عامها الثالث، متجاوزة كل التوقعات والآمال التي علقها البعض على الأيام الأولى من اندلاعها. كانت البداية محملة بالخطابات النارية عن الحسم السريع والانتصار الحاسم (ازبوع ازبوعين على الأكثر)، غير أن الأيام كشفت أن الحروب، مهما كان شعارها، لا تحسم إلا على جثث الأوطان. فمنذ اندلاعها، انقسم الناس حيالها إلى فريقين، فريق يرى أن الحرب لا بد أن تستكمل حتى القضاء التام على قوات الدعم السريع، وفريق آخر يرى أن استمرارها يعني تمديد الجرح، وإبقاء البلاد في دوامة الخراب والدمار. ومع سقوط الفاشر تجددت الأصوات المطالبة بالتحشيد والتعبئة العامة، وكأن البلاد لم تكتف بعد من نزيفها الطويل، وكأن الخراب الذي عم المدن والقرى لا يكفي شاهداً على عبث هذه الحرب.. الحقيقة التي يصعب على البعض الاعتراف بها هي أن الحسم العسكري في السودان مستحيل. فليست هذه حرب جيوش نظامية متكافئة، ولا ساحة معركة يمكن فيها للمنتصر أن يفرض إرادته بسهولة. إنها حرب داخل الجسد الوطني نفسه، فكل رصاصة تطلق تصيب نسيج الوطن، وكل مدينة تسقط تنقص من هيبة الدولة لا من عدوها. وإذا كان الهدف إنقاذ السودان، فإن الإنقاذ لا يكون عبر فوهة البندقية، بل عبر طاولة الحوار وعقل الدولة الرشيد.. لقد أنهكت الحرب الجميع: الدولة، والجيش، والمواطن، والاقتصاد، والنسيج الاجتماعي. لم يخرج أحد رابحاً سوى تجار السلاح والموت والمتربحين والمتكسبين من الفواجع والكوارث. أما الخاسر الأكبر فهو الوطن ذاته، الذي يترنح اليوم على حافة التفكك. فالحرب التي كان يراد بها استعادة الدولة، تحولت إلى آلة تمزق ما تبقى منها.. إن الحلول الحقيقية لا تأتي من فوهة بندقية، بل من إرادة سياسية شجاعة تتجاوز منطق المنتصر والمهزوم. السودان اليوم بحاجة إلى شجاعة السلام أكثر من شجاعة القتال. السلام ليس ضعفاً ولا استسلاماً، بل أعلى درجات القوة حين يقر الإنسان بأن الوطن أكبر من الأطراف المتحاربة، وأقدس من الحسابات الضيقة.. إن إنقاذ السودان لا يبدأ من جبهات القتال، بل من جبهة الضمير الوطني. من اعتراف الجميع بأن هذه الحرب عبثية، وأن استمرارها يعني نهاية فكرة السودان الموحد. المطلوب الآن هو وقف شامل لإطلاق النار، يليه حوار وطني شامل لا يقصي أحداً، لأن الإقصاء كان دائماً بذرة كل حرب جديدة. ففي النهاية، لن يذكر في التاريخ من الذي أطلق النار أولاً، بل من الذي أوقفها. ولن يخلّد الناس من رفع شعار الحرب، بل من حمل راية السلام وأنقذ ما يمكن إنقاذه من وطن يتهاوى تحت ركام الطموحات المسلحة.. ما بدأ كصراع محدود بين مؤسستين عسكريتين، تمدد اليوم ليصبح حرباً شاملة تمزق الجغرافيا والوجدان، وتحوّل الوطن إلى أطلال ذاكرة ومشاهد ألم. في خضم هذا الخراب، يواصل البعض الرهان على الحسم العسكري فيما يرفع آخرون راية وقف الحرب وإنقاذ السودان. وبين هذين الصوتين، تتبدى الحقيقة المرة أن لا حسم عسكري ممكن، ولا انتصار في حرب يخسر فيها الجميع. منذ اللحظة الأولى، غذّى الخطاب الرسمي والعاطفة الشعبية فكرة أن الحرب يمكن أن تحسم بالسلاح، وأن النصر الكامل ليس سوى مسألة وقت. لكن الواقع، بكل قسوته، أثبت أن السودان ليس ساحة معركة بين جيشين متقابلين، بل وطن يقتتل في داخله. فكيف تحسم حرب لا تملك حدوداً واضحة، ولا جبهة واحدة، ولا عدواً يمكن تعريفه دون أن يتصدع مفهوم الوطن نفسه.. إن الحرب التي تدخل المدن والبيوت، وتحوّل المواطن إلى نازح، والمزارع إلى مقاتل، ليست حرباً يمكن أن تنتج سلاماً. إنها دوامة استنزاف مفتوحة، تنهك الدولة وتفتت مؤسساتها وتزرع الأحقاد بين مكونات المجتمع. وكل يوم يمر في هذه الحرب، يغلق باباً جديداً أمام فكرة الدولة الحديثة التي حلم بها السودانيون منذ الاستقلال. لم يعد السودان في حربه هذه يقاتل عدواً خارجياً، بل يقاتل ذاته. المدن التي كانت رموزاً للحضارة والتعليم والكرم السوداني، تحولت إلى رمادٍ من الدمار والنزوح. الاقتصاد انهار، والمؤسسات تفككت، والمجتمع فقد ثقته في كل شيء. ومع ذلك، تواصل بعض الأصوات الدعوة إلى التعبئة العامة وكأن الخراب الذي حل بالبلاد لم يكن كافياً دليلاً على عبثية الحرب. إن الحروب الطويلة لا تبقي إلا على من يتقنون صناعة الموت، أما الأوطان فتهوى إلى درك سحيق من الانقسام والضياع. والتاريخ القريب في الإقليم شاهد على أن أي حرب داخلية لا تفضي إلا إلى تسوية سياسية، مهما طال أمدها أو تعددت أطرافها. فلماذا الإصرار على أن تكون تجربة هذه الحرب استثناءً من كل تجارب العالم بل واستثناءً من تجارب السودان نفسه.. إن وقف الحرب لا يعني الاستسلام، بل امتلاك شجاعة مواجهة الذات، والاعتراف بأن السودان أكبر من طموحات المتحاربين مجتمعين. ما يحتاجه الوطن اليوم ليس نصراً عسكريًا، بل نصراً وطنياً يوقف النزيف ويعيد للدولة معناها ومواطنيها مكانتهم. إن السلام ليس ضعفاً كما يصور البعض، بل هو ذروة القوة حين يتخلى القائد عن أوهام المجد العسكري لصالح بقاء الوطن. فالحروب قد تصنع أبطالاً، لكنها لا تصنع أوطاناً. والبطولة الحقيقية اليوم هي في من يجرؤ على قول كلمة كفى وسط ضجيج السلاح. والحل لا يمكن أن يكون جزئيًا أو مؤقتًا، بل يجب أن ينطلق من رؤية وطنية شاملة تعيد تعريف الدولة، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد ينهي حالة الانقسام المزمن بين المركز والهامش، وبين العسكري والمدني، وبين القبيلة والوطن. فبدون مشروع جامع، ستظل الحرب تجد ألف ذريعة لتبدأ من جديد كلما خمدت نيرانها.. إن إنقاذ السودان لا يكون بالرصاص، بل بالاتفاق على فكرة السودان نفسه، فكرة العيش المشترك، وسيادة القانون، والمواطنة المتساوية. هذه هي المعركة التي تستحق أن تخاض، وهي وحدها التي يمكن أن تضع حداً للحروب الدائرية التي أنهكت البلاد لعقود.. إن التاريخ لن يسأل من الذي بدأ الحرب، بل من الذي أوقفها. ولن يخلد أسماء من صبوا الزيت على النار، بل من امتلكوا شجاعة إطفائها. والسودان اليوم يقف على مفترق طرق، فإما أن يختار طريق العنف المستمر، وإما أن يتجه نحو سلام حقيقي يعيد إليه إنسانيته ومكانته بين الأمم.. لقد آن الأوان لأن ندرك أن الحرب لم تعد خياراً، وأن بقاء الدولة السودانية ذاتها أصبح رهيناً بقدرتنا على تجاوز منطق القوة إلى منطق الحكمة، ومنطق الثأر إلى منطق الوطن.. فكفى حرباً لقد آن للسودان أن ينتصر للسلام.

لقد قلنا من قبل ونظل نقول إن الحرب مثل الخمر تذهب العقل، ومن يذهب عقله لا يتوانى من ارتكاب الخبائث والكبائر والفواحش،  وهكذا يتساوى معاقر الخمر مع خائض الحرب، فإذا كان شارب الخمر الذي ذهبت الخمر بعقله يتصرف دون وعي وإدراك بما قد يوقعه في ارتكاب الآثام والذنوب والكبائر، مثل قتل النفس والزنا وإتيان كل ما هو محرم تحت تأثير الخمر، ولهذا سميت الخمر (أم الكبائر)، فكذا الحال مع خائض الحرب يمكنه بفعل الحرب بل الثابت عمليًا أنه يرتكب كل الموبقات والكبائر والفواحش، مثل قتل النفس والاغتصاب وكبائر الحرب الأخرى التي سنأتي عليها، ولهذا استحقت الحرب أن يطلق عليها (أم الكبائر) أيضًا، فما من حرب وقعت في هذه الدنيا سابقًا وما هو واقع منها حاليًا مثل حرب غزة والسودان وما ستقع في المستقبل، كانت وستكون حربًا نظيفة خالية من الانتهاكات والفظائع، فأيما حرب هي بالضرورة رديفة الانتهاكات والموبقات والفظائع، فالحرب تتسبب في طيف واسع من الانتهاكات الفظيعة مما يشكو منه الناس الآن في السودان، مثل سقوط الأبرياء قتلى وفقدان الأحياء لكل ما يملكون، وتشريدهم من بيوتهم، فيضربون في الأرض هائمين على وجوههم بحثًا عن المأوى الآمن داخل الوطن وخارجه، وفقدان الرعاية الطبية والصحية ما يتسبب في انتشار الأوبئة والأمراض في ظل تدهور بل وانعدام الخدمات العلاجية وانهيار كامل المنظومة الصحية، وتفشي حالات الاغتصاب التي تقع على الحرائر، كما تشمل آثار الحرب الأضرار الجسدية والنفسية طويلة المدى على الأطفال والبالغين على حد سواء، فضلًا عن تفشي الفقر وسوء التغذية والإعاقة والتدهور الاقتصادي والأمراض النفسية والاجتماعية الناجمة عن صدمة الحرب، وتدمير كامل البنية التحتية وخاصة تلك التي تدعم الصحة العامة للمجتمع، مثل قطاعات الأنظمة الغذائية والرعاية الطبية والنظافة وتدهور البيئة والنقل والاتصالات والطاقة الكهربائية، وبعبارة جامعة فإن الحرب تتسبب في تدمير الحياة الإنسانية والتراث الثقافي والاقتصادي وتعيق التنمية والسلام، وتتسبب في حالة من الارتباك والقلق والإحساس بالحزن الشديد والشعور باليأس والإحباط، وغير ذلك الكثير من الأضرار والخسائر الجسيمة والفظائع والفواجع التي يعايشها السودانيون جراء الحرب العبثية الدائرة في بلادهم، رغم أنهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والأنكى أنهم صاروا المتضرر والخاسر الوحيد فيها، وبالتالي لا حاجة لهم أن نذكرهم بما يعايشونه ويقاسونه فعليًا، بل هم أكثر حاجة لمن يحدثهم ويبشرهم بإنهاء هذه الحرب المهلكة التي قضت على الأخضر واليابس، وتعتبر هي المسبب الرئيس في كل ما عانوه وما انفكوا يعانونه من ويلات وعذابات، ولا سبيل للانفكاك منه إلا بإيقاف وإنهاء هذه الحرب اللعينة، ولهذا فإننا معنيون هنا بمناهضة ومكافحة كل إفرازات الحرب السالبة والضارة، ولملمة هذه الجراح المتفتقة ومحاولة مداواتها، بتعزيز الخطاب الديمقراطي وإفشاء روح وثقافة السلام، ومناهضة خطاب الكراهية المنتن، وإفشاء قيم التسامح المجتمعي في ضوء الخلخلة والزلزلة الاجتماعية التي ضربت كافة مكونات المجتمع السوداني التي نخرت في وحدته وهلهلت نسيجه الاجتماعي وهددت وحدته الوطنية، وما يرافق ذلك من نشر ضار وسالب وتضليل إعلامي، لدرجة جعلت من الحقيقة المجردة أكبر ضحايا هذه الحرب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى