الفاشر.. المدينة التي خذلها السودانيون والعالم

طاهر المعتصم

تقرير: طاهر المعتصم

مدينة تختنق تحت الحصار

على مدى ما يقارب ستمائة يومٍ من الحصار والجوع والقصف، تحولت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، من مركزٍ حيوي للتجارة والإغاثة إلى بؤرة إنسانية معزولة لا يصلها سوى صدى الانفجارات.

كانت المدينة آخر معقلٍ رئيسي للقوات المسلحة السودانية في إقليم دارفور، ومأوىً لعشرات الآلاف من النازحين الهاربين من مدن الإقليم الأخرى، قبل أن تسقط يوم الأحد الماضي في يد قوات الدعم السريع، لتُطوى صفحة طويلة من الصمود المدني والعسكري.

ومع دخول مقاتلي الدعم السريع إلى المدينة، بدت الفاشر – بحسب وصف أحد سكانها عبر الهاتف قبل انقطاع الاتصالات – “مدينة بلا قلب”.

المستشفيات مدمّرة، والأسواق محروقة، والطرقات التي كانت تضج بالحركة تحوّلت إلى ممرات أشباحٍ وصمتٍ مرعب.

شهادات الفظائع.. حين يصبح المدني هدفًا

في تقريرٍ حديث لبعثة الأمم المتحدة الدولية لتقصي الحقائق بشأن السودان، جاء أن ما جرى في الفاشر “يتجاوز حدود الانتهاكات المنفردة إلى نمطٍ ممنهجٍ من الجرائم ضد الإنسانية”.

شهادات الناجين التي جمعتها البعثة وصفت عمليات إعدامٍ ميدانية طالت رجالًا وشبانًا لم يشاركوا في القتال، وعنفًا جنسيًا ممنهجًا ضد النساء والفتيات، إلى جانب استخدام التجويع كأداة حرب عبر منع دخول الغذاء والدواء إلى المدينة طوال شهور الحصار.

كما أفاد مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بتقارير موثوقة عن قتل متطوعين إنسانيين ومحاولات متكررة لإعدام مدنيين حاولوا تهريب الإمدادات الغذائية، وهو ما وصفه المفوض السامي فولكر تورك “استخدام ممنهج للتجويع كسلاح حرب”.

وفي تصريحٍ صادم، قالت دينيس براون، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، إن منظمات الإغاثة رصدت مدنيين “يعبرون الطرق سيرًا على الأقدام، في حالة جفافٍ وتعبٍ شديدين، وبعضهم مصاب بجراح، والجميع مصدوم”.

المدينة التي قاومت وحدها

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، ظلت الفاشر حالةً فريدة، مدينة محاصَرة لكنها لم تسقط، احتضنت عشرات آلاف النازحين من نيالا والجنينة وزالنجي، وأصبحت مقراً للمستشفيات الميدانية القليلة المتبقية في دارفور. 

لكنّ الحصار الخانق الذي فُرض عليها من كل الجهات، مع القصف العشوائي ونقص الوقود والإمدادات الطبية، جعل من الحياة اليومية كابوسًا متواصلاً

خلال تلك الفترة، حاولت منظمات محلية ودولية إرسال قوافل إنسانية، لكنّ معظمها وُجه بالمنع أو النهب أو القصف. ومع كل شهرٍ يمر، كانت المدينة تُستنزَف ببطءٍ شديد، حتى انهارت خطوط الدفاع الأخيرة في الأسبوع الأخير من أكتوبر الجاري.

سقوط الفاشر.. نقطة تحوّل في حرب السودان

يرى مراقبون أن سقوط الفاشر ليس حدثًا ميدانيًا فحسب، بل تحوّل سياسي وإنساني كبير يعيد رسم خريطة الحرب في السودان. فمنذ سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، بات الإقليم بأكمله تحت قبضتها تقريبًا، مما يمنحها نفوذًا عسكريًا وجغرافيًا خطيرًا يمتد حتى الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى.

ويقول باحثون في مركز الدراسات الإنسانية بجامعة ييل الأميركية إن سيطرة الدعم السريع على الفاشر “تمثّل أخطر مرحلة في الصراع، لأنها قد تفتح الباب أمام إعادة تموضع عرقي وسياسي في دارفور على حساب السكان الأصليين”.

ويحذر تقرير المركز من أن المدينة يمكن أن تشهد جرائم تهجير قسري واسعة ما لم يُسمح بدخول المساعدات فورًا.

وجوب الهدنة الإنسانية

في ظل هذا الانهيار، تتصاعد الدعوات – من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمات مدنية سودانية – إلى هدنة إنسانية لمدة 90 يومًا، تتيح فتح الممرات الإنسانية وإيصال الإغاثة الطبية والغذائية للمناطق المحاصرة.

وقالت دينيس براون إن الأمم المتحدة “جاهزة لإرسال 42 شاحنة محمّلة بالإمدادات، لكنها تنتظر ضمانات للمرور الآمن.

وتؤكد منظمات حقوقية سودانية أن أي هدنةٍ يجب أن تكون ملزمة للطرفين، وتخضع لرقابةٍ دولية تضمن عدم تكرار استهداف المدنيين أو عرقلة الإغاثة.

لكن على الأرض، تبدو الهدنة بعيدة المنال وسط استمرار الاشتباكات في أطراف المدينة، وانعدام الثقة بين الأطراف، وتدفق الأسلحة القادمة من الخارج رغم الدعوات المتكررة من الأمم المتحدة إلى وقف التدخلات الإقليمية.

العدالة المؤجلة.. والمساءلة المطلوبة

شددت التقارير الدولية الأخيرة، وعلى رأسها تقرير بعثة تقصي الحقائق بعنوان (سبل الإفلات من العقاب) على أن الإفلات من العقاب هو المحرّك الأخطر لاستمرار العنف في السودان.

ودعت البعثة إلى إنشاء هيئة قضائية دولية مستقلة بالتنسيق مع المحكمة الجنائية الدولية، لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم في دارفور، بما في ذلك ما جرى في الفاشر.

الإدانة التاريخية لـ علي كوشيب في المحكمة الجنائية الدولية في 6 أكتوبر الماضي أعادت الأمل في أن العدالة ممكنة، لكنها أظهرت أيضًا هشاشة النظام القضائي السوداني وغياب الإرادة السياسية المحلية لمحاسبة الجناة.

ختامًا.. وجع مدينة وعجز عالم

اليوم، تقف الفاشر على أعتاب مأساة جديدة، وهي تنزف من جراحها بعد أن فقدت كل شيء تقريبًا: مؤسساتها، مستشفياتها، وأمنها، لكنها لم تفقد حقها في الحياة،

لقد قاومت وحدها 600 يوم، في وقتٍ خذلها فيه السودانيون المنقسمون والعالم المتفرج.

في النهاية، لا يمكن اختزال مأساة الفاشر في أرقام الضحايا أو صور الدمار وحدها؛ بل في سؤالٍ مفتوحٍ يلاحق الضمير الإنساني: كم من المدن يجب أن تحترق قبل أن يتحرك العالم؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى