أطباء الأرض المحروقة .. بين المهنة وسندان الرسوم المليارية
واقع قاسٍ يدفع الكفاءات إلى الهجرة وآخرين إلى أعمال هامشية
الخرطوم – إبتسام حسن
في بلد أنهكته الحرب وأرهقته الأزمات، يقف الطبيب السوداني اليوم في مواجهة واحدة من أصعب المعضلات المهنية والمعيشية في تاريخه الحديث. فبين مهنة إنسانية شاقة، ورسوم “مليارية” مفروضة عليه في سبيل التدريب أو التخصص، يجد الطبيب نفسه أمام واقع خانق يهدد حلمه المهني ويقوض رسالته الإنسانية.
وفي ظل غياب الدعم الرسمي وتدهور مؤسسات الدولة الصحية، تتكشف ملامح مأساة صامتة يعيشها الأطباء في المستشفيات والعيادات العامة، ويمتد أثرها إلى حياة المواطنين وجودة الخدمات الطبية في البلاد.
تدريب غائب
كشف عدد من الأطباء السودانيين في إفاداتهم لـ(أفق جديد) عن تدهور خطير في بيئة التدريب الطبي، إذ أصبح التدريب داخل المستشفيات الحكومية شبه معدوم، وإن توفر فإنه لا يأتي مجانًا، بل تفرض الحكومة على الطبيب المتدرب رسوماً تصل إلى ملياري جنيه، مقابل والتدريب داخل المستشفى.
وأشار الأطباء إلى أن وزارة الصحة لا توفر إختصاصيين مدربين للإشراف على المتدربين، مما يجعل بيئة العمل “عشوائية ومفتقرة للتوجيه”، بعد أن إتجه أغلب الإختصاصيين إلى القطاع الخاص لتأمين إحتياجاتهم المعيشية.
ويقول أطباء إن غياب الإشراف المهني أدى إلى تراجع جودة التدريب وإنعدام المتابعة، فيما وصف آخرون هذا الواقع بأنه إنعكاس مباشر لضعف التخطيط وغياب الرؤية في وزارة الصحة، التي لم تعد قادرة على إستيعاب إحتياجات الأطباء أو تطويرهم مهنياً.
إختصاصيون في المناصب
ولم يخفِ الأطباء إستياءهم من سلوك بعض الإختصاصيين العاملين ضمن وزارة الصحة الذين يفضلون المناصب الإدارية داخل المستشفيات الحكومية، بحثاً عن الوجاهة الإجتماعية التي تجذب المرضى إلى عياداتهم الخاصة. هذا الواقع، بحسبهم، جعل أغلبهم أقل تفرغًا للتدريب العملي أو الإشراف على الأطباء الجدد، ما أدى إلى إتساع فجوة الخبرة بين الأجيال الطبية داخل المستشفيات العامة.
أعمال هامشية
أجمع عدد من الأطباء الذين تحدثوا لـ(أفق جديد) على أن ضعف الأجور وإرتفاع تكاليف المعيشة دفعتهم إلى إمتهان أعمال هامشية لا تمت بصلة لمهنتهم.
فقد أصبح من المألوف أن يعمل الطبيب سائقاً أو حلاقاً أو بائعاً في الأسواق أو فنيًا لإصلاح الأجهزة الإلكترونية، في سبيل سد رمق أسرته
أما الطبيبات، فوجدن أنفسهن أمام معاناة مركبة، إذ إضطر بعضهن للعمل في مشاريع صغيرة منزلية كتجهيز خلطات تجميل أو مستحضرات بسيطة لتوفير دخل إضافي، في ظل إنعدام الدعم الحكومي وتدني الرواتب الرسمية
ويرى مراقبون أن هذه الظاهرة تمثل إنعكاساً خطيراً لإنهيار المنظومة الصحية، مشيرين إلى أن مجلس التخصصات الطبية أصبح يفرض رسوماً باهظة على الأطباء المتدربين، دون مراعاة للظروف الإقتصادية والإجتماعية، وكأنه يتعامل معهم كمصدر تمويل بدلاً من كونه جهة تأهيل وتطوير.
حواجز أمام الشباب
وفي الوقت الذي يجلس فيه أكثر من (1168) طبيباً لامتحانات التخصص التي ينظمها مجلس التخصصات الطبية، يشكو الأطباء من غياب منهج واضح ومقررات محددة، على غرار البورد الأمريكي أو العربي
ويؤكدون أن نسبة النجاح في هذه الإمتحانات منخفضة للغاية، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى عدالة المعايير وشفافية التقييم.
ويرى عدد من الأطباء أن هذا الوضع لا يشجع على التطور المهني، بل يفتح الباب واسعاً أمام هجرة الكفاءات الطبية إلى الخارج، أو عزوفهم عن توقيع عقود رسمية مع وزارة الصحة، مكتفين باتفاقات قصيرة الأجل أو “عقود داخلية” لا تلزم أي طرف.
رسوم باهظة في زمن الحرب
وعبّر عدد من الأطباء عن سخطهم من إرتفاع رسوم إمتحانات التخصص، التي وصفوها بأنها “غير منطقية” في ظل الأوضاع المعيشية الكارثية التي خلفتها الحرب والنزوح.
وطالب الأطباء في حديث لـ” افق جديد” بأن تكون تلك الرسوم رمزية، مؤكدين أن البلاد أحوج ما تكون اليوم إلى أطباء مدربين ومؤهلين، لا إلى إقصائهم بفواتير باهظة تحرمهم من التخصص والخدمة.
كما إنتقدوا إعتماد المجلس الطبي لمعايير صارمة في النجاح تؤدي إلى إقصاء نسبة كبيرة من المتقدمين، معتبرين أن هذه السياسات تُعطّل الكوادر الشابة وتعمق أزمة نقص الكفاءات في القطاع الصحي المنهك.
رواتب لا تكفي
ويصف الأطباء التوظيف الحكومي بأنه “غير مجزٍ على الإطلاق”، إذ تتسم ساعات العمل بالطول والإرهاق، في مقابل رواتب لا تغطي الحد الأدنى من متطلبات المعيشة
تقول الطبيبة إسراء محمد أرقو لـ(أفق جديد):
العمل في الداخل بالنسبة للطبيب أصبح مجرد وسيلة لإكتساب الخبرة قبل السفر إلى الخارج. نقبل بالرواتب الزهيدة فقط لأننا نأمل في فرصة أفضل خارج البلاد. أما التعاقد مع وزارة الصحة فهو غير مرغوب فيه، لأنه مرهق وملزم والعائد منه ضعيف جداً
مأساة مهنة نبيلة
من جانبها، وصفت الطبيبة وفاء هاشم مهنة الطب في السودان بـ”المأساة”، مؤكدة أن معاناة الطبيب تبدأ منذ سنوات الدراسة الجامعية التي تشهد ضعفاً في التدريب العملي، وتستمر بعد التخرج في ظل سوء التنظيم وإنعدام التأمين الصحي للطبيب نفسه وأسرته، خاصة خلال فترتي الإمتياز والخدمة الوطنية.
وقالت إن “المستشفيات الحكومية لم تعد قادرة على إستيعاب الأعداد الكبيرة من خريجي الكليات الطبية الخاصة التي تكاثرت دون تخطيط أو رقابة، ما إنعكس سلباً على جودة التدريب”
وأضافت:
كثير من الأطباء اليوم يعملون في مهن هامشية كتجارة بسيطة أو قيادة المركبات لتأمين معيشتهم، بينما يغامر آخرون بالهجرة بطرق غير نظامية عبر ما يُعرف بـ(السنبك) هرباً من هذا الواقع المؤلم.
وإنتقدت وفاء كذلك نظام التدرج الوظيفي الجديد الذي أقرّ ضرورة تجديد التسجيل في المجلس الطبي كل ثلاث سنوات، بعد أن كان التسجيل دائماً عقب إجتياز الإمتحان، معتبرة أن القرار يضيف عبئاً جديداً على كاهل الأطباء الشباب.
تختزل هذه الشهادات صورة موجعة لجيل كامل من الأطباء السودانيين الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة المهنة وسندان الرسوم المليارية، وبين حلم الإصلاح وإكراهات الواقع.
فبينما تواصل البلاد نزيفها بفقدان خيرة كوادرها إلى الهجرة، يبقى السؤال مؤرقاً ومفتوحاً:
هل ستظل مهنة الطب في السودان حلماً وطنياً يسعى أصحابه إلى خدمة الإنسان، أم عبئاً شخصياً يدفعهم إلى الهرب من وطن لا يحتضن أبناءه؟





