بونا ملوال: صـوت نضـج في التنـوع
عبد الله آدم خاطر
(1)
تواترت الأنباء من جوبا عاصمة دولة جنوب السودان برحيل الإعلامي المميز والسياسي الضليع بونا إبن السلطان ملوال ما دوت رينق عن عمر ناهز المائة عام . حزنت لسماعي خبر رحيل صديق عزيز بيد أن بونا كما لو كان حياً برز أمامي طويلاً و شامخاً وهو يبتسم كعادته ، يخاطب الذاكرة بما كان عليه حاله عندما إلتقينا أول مرة ،في مبني وزارة الثقافة والإعلام علي شارع الجامعة بالخرطوم في مطلع سبعينات القرن الماضي والبلاد أمام تحدي إنجاح تجربة إتفاقية أديس أبابا 1972والتي إعترفت بالتعدد العرقي والتنوع الثقافي في السودان .
(2)
تولي بونا ملوال في تلك السنين الباكرة مسئولية الإعلام كوزير دولة بالوزارة الأم أملاً في ترسيخ خطاب التنوع الثقافي وتوسيع دوائر تأثيراته الوطنية وقد كان بونا مخلصاً في أداء ذلك الدور الذي كان يتطلع من خلاله أن يساهم في إستكمال العملية السلمية للسودان بعد الاتفاق السياسي العسكري الأمني بين الاطراف .
من ناحية أخري فقد كان وجود بونا في الوزارة فرصة إنفتح فيها الباب أمام المستنيرين من أبناء الجنوب بمن فيهم الموسيقيين والمطربين والصحفيين أن يرتادوا مخاطبة الجمهور السوداني بثقة وإحترام من خلال أجهزة الإعلام الرسمية خاصة الإذاعة والتلفزيون ولم يكتف بونا بالترحيب بهم وتشجيعهم بل سعي أن تكون أغنيات التراث من جنوب السودان تسمع من مكتبه كل ماجاءت مناسبة للإستماع ، أما الحوارات حول ضرورة تنوع الإعلام الثقافي لكل الأقاليم فقد كان شغله الشاغل .لقد كنت شاهدا” و مراقباً لتطور تلك التجربة بدعم واسع من وزير الثقافة والإعلام يومئذ عمر الحاج موسي أديب بخلفية عسكرية ووكيل الوزارة إبراهيم الصلحي الفنان التشكيلي العالمي المعروف ، إذ كنت أيامئذ ضمن ثلاثة زملاء آخرين نعمل في السكرتارية الفنية لمكتب وكيل الوزارة وكان لا يفصل بين مكتبنا ومكتب بونا غير حائط لا يمنع تسرب الأصوات الموسيقية التي تصدر أحيانا” من مكتب الوزير.
(3)
في مرحلة لاحقة أنشأ مجلس الوزراء في كل وزارة مجلسا” وزاريا” لمتابعة وتقويم الأداء برئاسة الوزير المعني ومقرر مشهود له بالكفاءة والعمل تحت الضغط الإداري ،وفي وزارة الثقافة بينما كان بونا الوزير الأول ورئيساً للمجلس كنت قد كلفت مقرراً له .
لقد تمتع المجلس بسلطة إدارية واسعة من خلال التقارير والتوصية بالمقترحات والإتجاهات الجديدة لتطوير الأداء بالوزارة ومؤسساتها المختلفة،وكان بونا يدرك ماتعنيه تقدير المسئولية علي نحو حكيم وصارم . لقدت أزددت ثقة في حسن تقديره للمسؤولية في بداية تكليفي كمقرر، إذ واجهتني صعوبة إدارية بعدم تخصيص مكتب لي وزملائي في مقررية المجلس .لم أتردد فقد رفعت الأمر للوزير مباشرة،فما كان منه إلا أن طلب مني وزملائي أن نعمل معه من داخل مكتبه حتي يتم تخصيص المكتب المناسب ، وبالفعل لم يمض إلا وقت قصير حتي تم تخصيص مكتب لائق لعمل المقررية ، ليس ذلك فحسب بل إننا لم ندخل معاً في إختلاف برغم تعقيد المسائل الإدارية أحياناً فقد كان قائداً مميزاً للعمل خاصة في الأوقات الدقيقة والصعبة.
(4)
بعد إنتفاضة أبريل 1985 ، شمخت شخصية بونا كرمز لوطن متنوع . كنت أسعي لتوفير منبر صحفي مستقل لطرح قضايا الريف عامة ودارفور خاصة ، وقد كان بونا يومئذ رئيساً لتحرير صحيفة ناطقة بالإنجليزية ضمن منظومة مؤسسة الأيام . طلبت إليه أن أصدر معه نسخة عربية وبعد مشاورات تأكد عدم جدوي ذلك إقتصاديا”للمؤسسة ولكنه إقترح علي أنه سيتنازل عن ملكية صحيفة Vigilant التي كان يصدرها بعد ثورة إكتوبر 1964 إذا ما وافق المجلس القومي للصحافة والمطبوعات خاصة وأنها قد أوقفت التصديق بصحف جديدة. لقد وافق المجلس علي التنازل فكانت تلك فرصة مميزة لي أن أصدر الصحيفة باسم النهضة و إستمرت في الصدور إلي أن توفقت بإنقلاب الثلاثين من يونيو 1989.
لم يكتف بونا بدعم جهودنا الصحفية يومئذ وحسب بل ظل يقدم أنشطتنا الحيوية في صحيفته المقروءة ذائعة الصيت يومئذ .
عندما إشتدت التوترات بين الضعين وقبائل الجنوب المتاخمة ، وقد أثيرت قضية إسترقاق الأطفال كقضية إنسانية ملحة وكان بونا ناشطاً فيها إعلامياً وسياسياً ، وبحسب مسؤوليتنا الأخلاقية والسياسية يومئذ في تضامن الريف ونهضة دارفور ، تحدثت إلي بونا أن ننظم اجتماع بين الطرفين للتداول والوصول إلي حلول مشتركة ، إذ أن المستنيرين في دارفور والجنوب جميعهم ضد أي سلوك يتنافى مع حقوق الإنسان .
لقد إستحسن الفكرة وطورها لتكون فطورعمل بمنزله ، تحول إلي جسر تواصل وتعزيز ثقة ، ولم يكتف بونا بذلك بل نقل لقراء صحيفته ما دار في الإفطار الإجتماع ، وقد إمتدح أيضاً أسلوبنا في القيادة حيث إبتدرنا مباشرة تناول قضايا ملحة وحساسة بقدر عال من الإدراك والمسؤولية .
(5)
لقد عرفت بونا ملوال الإنسان: العزيز النفس ، المهني رفيع المستوي، الإداري المحنك والوطني الذي لم يساوم علي هويته الثقافية ، وقدر ما كان صديقاً حميماً فإنه كان يعرف حجم المسافات بينه والاخرين . كثيراً ماكنا نجد الفرص للتداول حول القضايا المشتركة خاصة في الفترة التي أعقبت إنتفاضة أبريل 1985، وتصادف أن سكنا متجاورين بأركويت قبل أن تعصف بتلك المداولات إنقلاب يونيو 1989.
لقد كان بونا يعرف أنه من بحر الغزال وأنه إبن أحد سلاطين الدينكا ممن يمثلون السلطة المحلية ، وبالمثل كان يعرف أني سوداني من دارفور ، أفخر بثقافة مواطني و إرثهم الممتد في عمق التاريخ ، وعندما كنت أحدثه عن دارفور وتاريخها الثقافي ، وكانت أغلب تعليقاته تنتهي أنه كان واجب علي السودانيين أن يعرفوا دارفور أكثر من قبل ، و لايجد فرصة للتعرف بدارفور إلا إنتهزها وقد ظل يساهم معنا كلما سنحت الفرصة للتعريف بالقيمة الإنسانية والوطنية لدارفور .
عندما تعمقت العلاقات بيننا بالمعرفة والتجارب وفي لحظة صفاء نادرة أخذ يقول (شوف ياعبد الله أنحنا ما نختلف مع بعض في أي حاجة ، ولكن وقتما إختلفنا بسبب العقيدة ، أرجو أن يحافظ كل منا علي علاقته بالآخر.) تلك الكلمات تأتي طيعة من أفواه السلاطين وأبنائهم وكانت تلك الكلمات ضمن أصدق أصوات النضج في التنوع السوداني ، وقد عمل بونا بإخلاص طوال حياته المديدة للحفاظ أن تبقي وشائج العلاقات بين شعبي السودان قوية ، وستظل قوية في سياق إستعادة أفريقيا لإستقلالها الإنساني وكرامة أوطانها .





