جوابات للأحباب: إلى ابني فيصل، لتعرف عمّك جمال

إبني الغالي فيصل،

تغشاك غيمات العافية، وأنت تهب العافية لكل من يحتاجها وتلك ياسيدي الحبيب ضالة المحتاج،

يا فيصل، هذه أولى الرسائل التي أكتبها لك لأعرفك برجل قامة إقتدينا به، هو عمّك جمال محمد أحمد. أكتب وفاء له، لأنه يستحق الوفاء بما قدمه، وكذلك عرفاناً لجيله، ولكي تعرفوا أنتم – واجيال المستقبل –  كيف أصبح لنا أباً روحياً . وقد تسأل يافيصل عن سبب إختياري للعم جمال محمد أحمد دون غيره ..وإجابتي لك لأننا وجدنا فيه لسان متواضع خبر العمل الدبلوماسي والفكر وإشتهر ككاتب ومربي..

هذه رسالتي الأولى لك، ولنقل أنها مدخل أضع فيه بين يديك ملامح عامة عن شخصية الرجل، وسأحاول في الرسالة الثانية أن أبدأ بالإجابة عن “من هو جمال”، وكيف إقتربتُ منه، وكيف إمتدت الصلة العميقة بيني وبينه.  تعرفتُ على عمك جمال في ظرف لا يُنسى. كان ذلك في عام 1981 حين تولى عم جمال أمانة المجلس القومي للآداب والفنون التابع لوزارة الثقافة والإعلام. كنت آنذاك أحد أعضاء لجان المجلس، وقد أخبرت أنه قد طلب إستدعائي إلى مكتبه لشأن لم أعرفه. دخلت عليه وأنا في قمة التوتر، لكنه – بفطنته وذكائه – شعر بإرتباكي، وبدلاً من إستجوابي، بدأ يسألني عن دراستي، وعن موضوعات الفلسفة، وهو تخصصي، ثم تطرّق في النهاية لموضوع الإستدعاء. عندها خرجت من مكتبه راضياً، رغم خطئي الذي لم يكن سوى عناد شاب في مقتبل الطريق الوظيفي.

هذه سيرة بسيطة – إن جاز التعبير – ستجد فيها يا فيصل بعض الوقائع والمعلومات التي تعكس حصافة وعمق التفكير الذي إتسمت به شخصية الأستاذ، وتلك الصفات هي شيمة العلماء يابنى..

دعني يابنى ان أقر لك أن عمك جمال دعاني أن أعرف جوانب كثيرة في حياته: أخذني إلى عوالم الفكر والدبلوماسية، وأطلعني على صورة المثقف السوداني الحقيقي. فهو لم يكن صوتاً وطنياً فذاً فحسب، بل كان ضميراً حياً، وعقلاً ثاقباً، وروحاً عبقرية . وكم تمنيت أن أكون نحاتاً لأرسم له تمثالاً مكبر وهنا استحضر شاعرية رفيقه صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته الشهيرة..

و ها أنا ذا يا فيصل، أتجرأ اليوم و أكتب لك عن عمك جمال كي أؤكد لنفسي أنني لم أنسَه، وأنني أحاول أن أستعيد أطراف الذاكرة التي تُهدّدها آفة النسيان. أكتب بالكلمة الصادقة، وهي كل ما أملك، كعربونَ وفاءٍ لرجلٍ منحني من روحه وعقله الكثير.

 

فيصل كنت كثيراً ما أتساءل: هل كان عمك يحمل من اسمه نصيباً؟ جمال في المعنى، وصفاءً في الروح؟ وعندما عرفته، أيقنت أنه يستحق ذلك الاسم. فقد كان متواضعاً تواضع العلماء، وقوراً كما يجب أن يكون الكبار، حكيماً جرّب الحياة وسبر أغوارها.

 

وتأكد يا بنى أنه حين هممت بكتابة هذه الرسالة، توقفت طويلاً، لأني أردتها أن تأتيك رقيقة كقطرات الندى، تُلامس القلب، وتحمل في طيّاتها عمق التجربة وصدق المشاعر. علّمنا عمك جمال أن الحياة لا تُقرأ فقط، بل تُعاش؛ تُفهم بتفاصيلها، بحلوها ومُرّها، بانكساراتها وقيامها. كما علّمنا أن الدنيا دار اختبار، لا دار عقاب، وأن من يخذل اليوم، قد يفتّش عن سبيل الرجوع غداً. وأن القلوب إذا تهدمت، فلا تُبنى كما كانت، إلا إذا كانت مرصوصة بالإيمان.

وفي الختام، إعلم بنى أننا تعلمنا من عمك جمال أن الصبر ليس خياراً، بل ضرورة. وأن العلم هو البلسم الوحيد لجراح القلب، حتى لو لم تندمل. الحكيم، يا فيصل وانت حكيم، تعلم انه يدع الجرح ينزف حكمةً لا حقداً . هذه الكلمات يا ولدي، من أبيك ، الذي حمل حباً صادقاً في قلبه لهذا الرجل، ويدعو لك ولكل إخوتك أن يُلازمكم الهُدى والتوفيق دائماً .

 

ابقَ طيب لوالدك ومحبّك،

عثمان يوسف خليل

المملكة المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى