تنزيه الذات البرهانية والكيل بمكيالين

بقلم : حيدر المكاشفي
في الأنباء أن محكمة كسلا برئاسة القاضي عثمان محمد بحر، أصدرت حكماً قضائياً قضى بسجن الناشط السياسي خالد إدريس لمدة أربع سنوات، إلى جانب غرامة مالية قدرها 10 ملايين جنيه سوداني. وجاء هذا الحكم على خلفية تصريحات إعتُبرت (مسيئة) لرئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان خلال لقاء جماهيري بمنطقة هداليا في مايو الماضي. ويأتي الحكم بناءً على شكوى رسمية قُيدت ضد إدريس، تتعلق بتصريحات أطلقها أثناء مخاطبة جماهيرية، وإعتبرتها المحكمة موجّهة ضد رأس الدولة، ما أدى إلى إدانته بالأحكام المذكورة..في مقابل ذلك كان مقطع فيديو متداول على منصات التواصل الإجتماعي أثار جدلاً واسعاً، بعد أن ظهر فيه رئيس الجالية السودانية في رواندا وهو يوجه تهديداً صريحاً لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان ، خلال إحتفال نظمته السفارة السودانية في كيغالي تضامناً مع أهالي الفاشر وكردفان. وفي المقطع، الذي وثّقته كاميرات الحضور، قال رئيس الجالية مخاطباً الحاضرين (البرهان يا يرفع سيفه، يا أنا بقطع راسه بسيفي ده، والداير يوصل ليه الكلام ده يوصله ليه). وسط هتافات وتكبيرات من بعض المشاركين في المناسبة بينما قابله السفير السوداني خالد موسى بإبتسامة عريضة دلالة على إستحسانه لهذا الكلام، ومعلوم أن السفير خالد موسى إسلامي معروف، وغير رئيس جالية رواندا ظل وما إنفك آخرون كثر من البلابسة دعاة الحرب والاسلاميين يكيلون الشتائم والسباب لقائد الجيش البرهان خاصة في أوقات الإنكسارات والإنسحابات دون ان يسألهم أحد دعك من أن يقدموا لمحاكمة..إن محاكمة هذا المواطن تذّكر بطريقة الملوك والأمراء والسلاطين الذين حصنوا أنفسهم من النقد، بإصدار قانون عرف باسم (قانون العيب في الذات الملكية أو الذات الحاكمة)، وهاهي سلطة بورتسودان تعتزم اعادة بعث وإحياء هذا القانون القراقوشي المعيب من بعد ما طواه النسيان، بتطبيق أحكام مماثلة بل مطابق له، وهكذا كما ترون يريد ملوك السودان الجدد الإرتداد بمستوى الحريات العامة القهقري الى أزمنة (قانون العيب في الذات الملكية)، هذا القانون التسلطي التحكمي المعيب، فقانون العيب في الذات الملكية الذي تستهدي به سلطة بورتسودان وتعيد سيرته السيئة، ينص على أن العيب في الذات الملكية أو إهانة الذات الملكية أو العيب في الذات الحاكمة تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون وتعتبر من جرائم الخيانة العظمى، وبحسب هذا القانون الجائر تتحقق الإهانة بقول أو فعل أو كتابة أو رسم أو غيره من طرق التمثيل يكون فيه مساس تصريحاً أو تلميحاً مباشرة أو غير مباشرة من قريب أو من بعيد، بتلك الذات المصونة، ويعتبر القانون أن ذات الملك أو السـلطان أو رئيس الدولة كيفما كانت تسميته، مصونـة لاتمس، وإحترامـه واجب، وأمره مطـاع.. إن صدور مثل هذه الأحكام يشكل سبة في جبين الشعب ولابد من إجهاضها في مهدها، حيث أنها تجعل لمن سيطروا على حكم البلاد بوضع اليد، حصانة تجعلهم فوق النقد، وبذلك تضع هذه الأحكام الجائرة ذواتهم الفانية في مقام واحد مع الذات الآلهية المنزهة عن الخطأ، كما أنها تحوي تعريفات هلامية فضفاضة وليس لها ماهية واضحة، وستكون خاضعة لتأويلات عدة وفق أهواء السلطة، كما انها تعطي هؤلاء الملوك الجدد إحساساً زائفاً بالإرتفاع عن عامة الناس والترفع عليهم، وهذه خصيصة ولك أن تقرأها خسيسة في الحكام إلا من رحم ربي، فأيما حاكم لا يرى الناس إلا مايرى، ولا يحب أن يسمع منهم إلا ما يريده ويطربه، ولا يسعده منهم إلا من يزمر له ويصفق من أصحاب الكلمة و الرأي، فهو يدرك خطورتهم علي الرأي العام و إستقرار ملكه و خضوع الرعية لسلطانه، إن محاكمة الناشط خالد وغض الطرف غن آخرين تكشف عمق التناقض في العدالة الإنتقائية بالسودان، فصدور حكم مغلظ على مواطن لم يكن جرمه سوى أنه إنتقد رئيس مجلس السيادة بلهجة وإن كانت حادة، بينما تترك أصوات أخرى تهاجم الرجل نفسه ـ وربما أشد ـ دون مساءلة. هذه الإزدواجية الصارخة تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة السلطة، وحدود النقد، وفلسفة هيبة الحاكم، فمن الناحية القانونية لا يوجد في التشريعات السودانية نص واضح تحت مسمى (عيب الذات السلطانية) كما هو الحال في بعض الممالك التي تحظر المساس بـ(الذات الملكية)، لكن الواقع يشهد محاولات مستمرة لخلق ما يشبه (قداسة سياسية) لقيادات الجيش أو المجلس السيادي، تستخدم لحماية السلطة من النقد أكثر مما تستخدم لصون كرامة المنصب.. ويلاحظ أن هذا المفهوم يجد جذوره في ما يمكن تسميته بـ(الذهنية السلطانية) التي تنتقل من نظام إلى آخر دون أن تتبدّل جذرياً، إذ يظل الحاكم في المخيال السياسي السوداني شخصية فوق النقد، حتى في ظل الخطابات التي تزعم التحول نحو الحكم المدني والديمقراطي. أما التناقض في تطبيق القانون، فهو ما يثير القلق الأكبر. فحين تحاكم فئة وتعفى أخرى، تتراجع هيبة القضاء ذاته، ويتحوّل القانون من أداةٍ للعدل إلى سلاحٍ سياسي يُوجَّه حسب ميزان الولاءات والمصالح. هذا التفاوت لا يُضعف الثقة في العدالة فحسب، بل يُكرّس ثقافة الخوف، ويعيد إنتاج الإستبداد بوسائل قانونية الشكل، سلطانية الجوهر إن جوهر المشكلة ليس في النقد ذاته، بل في الجهة التي يصدر منها النقد. فالنظام لا يخشى الكلمات، بل يخشى من يقولها. لذلك يُسمح بالهجوم حين يصدر من محسوبين على دائرتهم، بينما يُجرّم إذا صدر من الخارجين عليها. وهذا ما يجعل المشهد أقرب إلى (مسرحية عدالة)، حيث يُحاكم الضعيف لجرأته، ويُكافأ القوي لتطابق لغته مع مصلحة السلطة. ما يحتاجه السودان اليوم ليس تحصين الحاكم من النقد، بل تحصين المواطن من الانتقام، وتأكيد أن هيبة الدولة لا تُبنى بتكميم الأفواه، بل بإحترام القانون حين يُطبَّق على الجميع دون إستثناء فالسلطة التي تخاف من الكلمة لا تستحق الطاعة، والقانون الذي يُستخدم درعاً للحاكم وسيفاً على المواطن، يفقد معناه كقيمةٍ للعدل، ويتحوّل إلى أداةٍ من أدوات القهر..





