من قاعات برج الإتصالات .. إلى مقر الشركات
“المدللون” .. أدوات إختراق الحركة الإسلامية للقوى المدنية
الحلقة الأولى
أفق جديد
في واحدة من أمسيات صيف 2010 الحارة، هبطت في مطار الخرطوم طائرة الخطوط الجوية الإماراتية، وعلى متنها رجلاً قد بدا وصوله جزءا من عملية كانت تُنفذ في الخفاء، إصطفّ وفد من هيئة الإتصالات وبرفقته ضابط أمن رفيع لإستقبال خبير الإتصالات الدولي، هندي الجنسية، والذي تم إستقدامه ضمن مشروع سري هدفه تعزيز قدرات جهاز الأمن في مراقبة الخصوم السياسيين للإنقاذ وإختراقهم تقنياً. وفي والوقت الذي كانت مخاوف النظام الإسلامي تتزايد بسبب المد المعارض في تصاعد مستمر.
لكن ما لم يكن في الحسبان، قد حدث بمجرد أن خرج الرجل من بوابة الوصول، فقد تعرّف الخبير في مطار الخرطوم على شخص سوداني كان يزاملَه في الجامعة قبل سنوات، وتبادلا التحايا، ولم يستغرق ذلك سوى ثوان قليلة، لكنه كان كافياً لإثارة قلق الضابط الذي أدرك فوراً أن هذه الصدفة قد تكشف أكثر مما ينبغي.
لم تمض دقائق حتى جرى إقتياد السوداني إلى غرفة جانبية للتحقيق في طبيعة علاقته بالخبير الهندي، قبل أن يتم الإفراج عنه لاحقاً، إلا أن تلك اللحظة العابرة كانت سبباً في أن يتم تسليط الضوء بشكل غير مقصود على ما كان يُعدّ له داخل برج الإتصالات (تأسيس وحدة تقنية سرية تُستخدم كأداة للاختراق والمراقبه)، وذلك في سياق خطة أمنية أوسع لصناعة جهاز ظلّ قادر على التنبؤ بأي تحرك معارض وإجهاضه قبل أن يتوسع.
هكذا بدأت واحدة من أكثر العمليات الأمنية غموضاً في سنوات النظام الأخيرة، معركة خفية هدفها تحييد القوى السياسية المعارضة وإعادة تشكيل المشهد السياسي لصالح من يمسكون بمفاتيح الدولة في الظل.
داخل الطابق المغلق في برج الإتصالات… الذراع التقنية لعمليات الإختراق
برج الإتصالات في الخرطوم، بواجهته اللامعة وهدوئه الظاهر، يبدو مبنى إداري يُشرف على حركة الاتصال في البلاد، ولكن منذ أن أدرك الإسلاميون مبكراً أن الفضاء الرقمي بات مكمن الخطر المستقبلي، وأن المدّ المدني يشكّل التهديد الأعمق لبقائهم، بدأوا في بناء أدوات جديدة لاختراق القوى المدنية ومراقبتها من الداخل، إحدى هذه الأدوات كانت تأسيس وحدة تقنية سرية داخل البرج خُصص لها طابق كامل جرى إغلاقه أمام الموظفين والعامة، ليصبح لاحقاً مركزاً لتدريب نخبة صغيرة من الخريجين بمهام تتجاوز نطاق العمل التقني العادي.
وفي عام 2010، ووفقاً لمعلومات حصلت عليها ” أفق جديد” من مصدر أمني مطّلع كان يعمل في هيئة الإتصالات قبل هجرته إلى دولة أوروبية بسبب خلافات مع ضابط آخر رفيع، فقد بدأت داخل هذا الطابق المغلق تدريبات سرية بإشراف جهاز الأمن وبمشاركة خبراء أجانب تم إستقدامهم لأغراض محددة لا تظهر في أي سجلات رسمية، وكان الهدف -بحسب المصدر- إعداد كوادر تقنية قادرة على تنفيذ مهام رقابية وإستخباراتية تستهدف بالأساس الفاعلين السياسيين، والناشطين، والتنظيمات السياسية، والمجموعات المهنية.
وتتفق هذه الرواية مع شهادة مهندس إتصالات متعاقد مع الهيئة، عمل سابقاً في دولة خليجية قبل أن يتم إستدعاؤه بعقد مؤقت للمشاركة في المشروع، قال ل” أفق جديد ” إن المتدربين تلقوا برامج مكثفة في الإختراق الأخلاقي وتحليل الثغرات الأمنية، ومهام تتعلق بمراقبة حركة البيانات في الشبكات، إضافة إلى أدوات تسمح بتعقب الإتصالات الرقمية، بما يشمل رصد النشاط التنظيمي للقوى المدنية.
كما شملت التدريبات -بحسب المصدرين- برامج متقدمة في أمن الشبكات والبنية التحتية للاتصالات، وإستخدام تقنيات التشفير المضاد، وتطبيقات التحليل الجنائي الرقمي، وكيفية إدارة الحوادث الأمنية بطريقة تمنح الجهاز القدرة على التدخل السريع في مواجهة أي نشاط مدني منظم يُشتبه بأنه قد يقود إلى حراك جماهيري جديد.
وفي مختبرات محاكاة أنشئت داخل البرج، خضع المتدربون لتمارين عملية تُحاكي عمليات إختراق، ورصد مصادر التهديد، وتحليل البيانات الرقمية الكبيرة، إلى جانب تدريبات في جمع المعلومات عبر الشبكات الإجتماعية، وإنتاج تقارير تُستخدم لاحقًا في الإستهداف أو الإحتواء أو التشويه الإعلامي—وهي أدوات أساسية في إستراتيجية النظام لإختراق القوى المدنية وتفكيكها.
ورغم مرور أكثر من عقد، لا تزال آثار تلك التدريبات بادية في الطريقة التي تعامل بها النظام مع التنظيمات المدنية والمهنيين، حيث صار جزء من الرقابة التي إستهدفت الناشطين والنقابيين والسياسيين يعتمد على الخبرات التقنية التي جرى بناؤها داخل ذلك الطابق المغلق.
وبين شهادات المصادر التي تفضّل البقاء في الظل، تتجلى الحقيقة الأكبر واضحة: ما بدا كبرنامج تقني داخل برج الإتصالات لم يكن إلا إحدى الأدوات التي إستخدمها النظام لإختراق الحراك المدني وإحكام سيطرته على المشهد السياسي من خلف الستار، وقد خصص في الأصل لمجموعة من المتفوقين من خريجي الإتصالات والتخصصات ذات الصلة.
وفي ذلك الطابق المعزول من برج الإتصالات، كان لافتاً ظهور مجموعة صغيرة أطلق عليها بقية المتدربين ــ بنبرة تجمع السخرية والدهشة، إسم “مجموعة المُدلّلين”. وهذه التسمية كانت إشارة إلى واقع ظلّ يتكرر طيلة فترة حكم الإسلاميين، فالمفترض أن هذه البرامج وُضعت خصيصاً لإستقطاب المتفوقين أكاديمياً في علوم الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات، لكن قائمة المقبولين لم تكن تُكتب دائماً بالحبر نفسه.
كانت هناك أسماء تُضاف في اللحظات الأخيرة، تتجاوز كل الشروط والإختبارات، وتجلس في المقاعد المخصصة للنخبة… فقط لأن سيرهم الذاتية كانت مزوّدة بسطر خفيّ يربطهم بقيادات نافذة داخل تيار الإسلاميين.
لم يكن أحد يجرؤ على السؤال، لكن الجميع كان يفهم، هذه ليست مجرد دورات تقنية، بل مسار إنتقائي يُشكّل طبقة جديدة من الكوادر المضمونة الولاء داخل منظومة تُعيد ترتيب أدواتها في الفضاء الرقمي.
وهكذا وجد المتفوقون الحقيقيون أنفسهم يتشاركون القاعة ذاتها مع آخرين لم يصلوا إليها بجهدهم، بل بإمتيازات لا تُمنح في العادة لمن يعتمدون على قدراتهم فقط، ومع مرور الأيام، أصبحت “مجموعة المدللين” رمزاً لصراع مستتر بين كفاءة أرادت أن تشق طريقها، ونفوذ يفضّل أن يكتب الطريق مسبقاً.
ومع إتساع الفجوة بين من دخلوا بإستحقاق ومن دخلوا بإمتياز، بدأت ملامح الهدف الحقيقي للدورات تتكشف شيئاً فشيئاً. إذ لم تكن المسألة تدريباً تقنياً فحسب، بل اختباراً أولياً للولاء، أو نوع من الفرز الناعم الذي يراقب فيه المدربون ومن خلفهم الأجهزة الأمنية، لغة الجسد، طبيعة الأسئلة، وحتى ردود الفعل الصغيرة التي تكشف عن قابلية كل متدرب للإندماج في مشروع أكبر مما يظهر على السطح.
تطابقت إفادات المصادر الذين تحدثوا ل” أفق جديد” حول أن داخل القاعة المعزولة، كان المدربين الأجانب يؤدون دورهم الفني بصرامة مهنية، لكنّ ما يحدث بعد خروجهم هو ما يستحق التوقف عنده، فحين تُسدل الستائر الإلكترونية، ويتحول الطابق إلى ما يشبه “غرفة عمليات مصغّرة”، تتدخل فرق أمنية متخصصة لتقديم ما يُعرف في أوساط المتدربين بـ”الجلسات المغلقة” وفي تلك الجلسات، كان الحديث ينتقل فجأة من بروتوكولات الشبكات إلى خرائط التأثير السياسي، وطرق مراقبة النشاط المدني على الإنترنت، وأدوات جمع المعلومات من منصات التواصل، وكان مخططا بعناية لإعداد نواة صلبة من العناصر الشابة، قادرة على تنفيذ الأدوار الرقمية التي يحتاجها النظام لإختراق خصومه السياسيين.
وما كان يثير الريبة أن أعضاء “مجموعة المدلّلين” كانوا يحصلون على نسخ موسعة من هذه الجلسات، بل تُتاح لهم فرص المشاركة في الإجتماعات التي لا يدخلها غيرهم، شيئاً فشيئاً بدا واضحاً أن هناك مساراً موازياً يُرسم لهم، مسار لا علاقة له بالتكنولوجيا وحدها، بل ببناء أذرع إلكترونية تعمل في الظل، تمتد خيوطها لاحقاً إلى داخل الحراك السياسي نفسه.
ولم يكن المتفوقون الحقيقيون يدركون، إلا في وقت متأخر، أنهم ليسوا في دورة تدريبية… بل في مسرح تجنيد صامت، يُعاد فيه تشكيل الخريطة الرقمية والسياسية للبلاد بعيداً عن الأعين.
ماذا كان يفعل رجال الطابق السري؟
بحسب مصدرين من داخل الدفعة نفسها، شاركا في تلك التدريبات قبل أن يغادرا الهيئة لاحقاً احتجاجاً على التمييز داخل البرنامج.
يقول المصدران إن التدريب المكثف الذي تلقّاه رجال “الطابق السري” في برج الإتصالات، كان إعداداً ممنهجاً لطبقة مختارة من المنفذين الرقميين الذين مُنحوا صلاحيات لم يحصل عليها بقية المتدربين. وبوصولهم المباشر إلى بنية الإتصالات الوطنية، إمتلكوا القدرة على تتبع الهواتف، ورصد حركة البيانات، وتحليل سجلات المكالمات، وتحديد مواقع المستخدمين عبر الأبراج.
ويؤكد أحد المصدرين أن هذا النفاذ التقني تحوّل سريعاً إلى أداة مراقبة صامتة تُستخدم لإستهداف ناشطين وتحديد شبكاتهم الداخلية وتحركاتهم، بينما بقي بقية المتدربين “يتعلمون من بعيد دون أن يُسمح لهم بلمس الأنظمة الأساسية”، على حد تعبيره.
بهذه الصلاحيات غير المتاحة للجميع، أصبح رجال الطابق السري العقدة التي تصل بين التقنية والإستخبارات، بين ضغطة زر وبين حملة إعتقالات على الأرض.
كيف إستخدموا التدريب ضد الخصوم السياسيين؟
وفقاً للمصدرين نفسهما، اللذين وصفا “مجموعة المدللين” بأنها تمتعت بمعاملة خاصة وصلاحيات لم يُمنحها بقية الخريجين.
يشير المصدران إلى أن المهارات التي اكتسبها أفراد “مجموعة المدللين” استُخدمت في تنفيذ عمليات إختراق إستهدفت البريد الإلكتروني والهواتف الذكية للصحفيين والناشطين، عبر روابط مصممة لسرقة الجلسات وزرع بوابات خلفية داخل الأجهزة، ويضيف أحدهما أن بعض أفراد المجموعة نفذوا عمليات زرع برمجيات تجسسية داخل ملفات مفخخة، جعلت من الهواتف المستهدفة منصات تجسس كاملة تسجل الصوت وتلتقط الصور وتجمع بيانات المواقع.
كما إمتدت العمليات -بحسب المصدرين- لإختراق منظمات مدنية، ورصد إجتماعاتها، ومعرفة خططها قبل تنفيذها، وصولاً إلى شن هجمات إلكترونية على الصفحات المعارضة لإسكاتها أو تشويهها.
ويقول أحدهما بمرارة: “كان لدينا الكفاءة، لكن لم تكن لدينا الأبواب، كل شيء كان محجوزاً للمدللين… ونحن كُنا مجرد متدربين على الهامش.”
وفي ذات السياق يقول مصدر امني: لم تتوقف مجموعة “المدللين” عند حدود التجريب التقني أو أداء المهام الروتينية التي تُسند عادة للعناصر الجديدة؛ بل نجحت، بفضل التدريب المكثّف والإشراف المباشر من جهاز الأمن، في تنفيذ إختراقات حساسة وموجعة داخل صفوف الخصوم السياسيين لنظام الإسلاميين، غير أن المفارقة الأكثر خطورة أن النظام نفسه إستخدم هذه المجموعة في تصفيات ناعمة داخلية، إستهدافاً لخصوم من داخل البيت الإسلامي.
ففي صمت تام، وبأدوات رقمية متقدمة، شقّت المجموعة طريقها إلى الأجهزة المصرفية واستخرجت بيانات وحسابات لشخصيات نافذة، ثم إمتد نشاطها إلى إختراق الإيميلات ومراقبة حسابات على مختلف وسائط التواصل، لتتحول المعلومات المسروقة إلى ذخيرة سياسية تُستخدم في الوقت المناسب: توريط، فضح، أو إبتزاز يُفضي إلى كسر المواقف وإعادة تشكيل الولاءات.
بهذه الطريقة تمكن النظام من إعادة هندسة الخريطة السياسية الداخلية، تُحرّك الولاءات، وتُسقط المناوئين، وتدفع آخرين للعمل في الظل لصالح الأجهزة الأمنية، سواء عبر التجسس على دوائرهم أو عبر تبنّي مواقف سياسية تخدم مراكز النفوذ المتصارعة.
وبحسب المصدر نفسه، فإن حالة من التذمّر كانت تتصاعد وسط من وصفوا أنفسهم بـ”المهمّشين” داخل الدفعة، وهم متدربون يقولون إنهم حُرموا من فرص تدريبية ومهام عملية كانوا يرون أنهم أحقّ بها من تلك المجموعة الصغيرة المحظيّة والمعروفة ب”المُدلَّلين”. ويؤكد المصدران أن أغلب الإمتعاض نابع من شعور عام بعدم العدالة في توزيع الفرص، الأمر الذي خلق إنقساماً حاداً داخل المجموعة.
وفي نهاية هذا المشهد الأمني المغلق، تبرز بعض الأسماء والوجوه في مجموعة المدللين، من داخل طابق النيل ببرج الاتصالات، تلقّى كل التدريبات التقنية والإستخباراتية التي أُعدّت لبناء شبكة صغيرة لكنها مؤثرة من العناصر الموالية للنظام.
لم يكنوا مجرد متدرّبين؛ إنما نموذجاً حياً لكيفية تحويل التدريب الأكاديمي والتقني إلى أداة عمل إستخباراتي للتجسس المباشر ضد الخصوم والقوى المعارضة، وبهذا، يُغلق التقرير حلقةً أولى من سلسلة التحقيقات التي تسعى لكشف ما دار خلف الأبواب الموصدة، وما أصبح يُعرف اليوم داخل أروقة السلطة بـ”الجيل الجديد للمخبرين الرقميين”.
يتبع..





