حرب الحركة الإسلامية الوجودية
تتجاوز الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع كونها مجرد صراع على السلطة ، لتكشف عن أزمة أعمق تتجذر في الإقصاء السياسي والتمسك الأيديولوجي بفكرة الحكم الأحادي الجانب. إن أخطر ما يهدد مستقبل البلاد هو إصرار تيار سياسي معين يدعي الإسلام (الذي يجري الحروب والقتل) على المضي قدمًا في حرب يعتبرها وجودية، ليس بالمعنى الوطني الشامل، بل بالمعنى الخاص لوجوده وبقائه في المشهد السياسي. هذا هو الوصف الحقيقي والمنطقي لهذه الحرب في تقديري. الإسلاميون يرون في إستمرار الحرب
فرصة أخيرة لإعادة فرض نفوذهم الذي تضاءل بعد ثورة ديسمبر المجيدة. ويعتقدون أن فترة حكمهم الطويلة التي أتاحت لهم التغلغل في كل مفاصل الدولة، مدنياً وعسكرياً و أكسبتهم قوة إقتصادية ضخمة، وقدرة على التأثير العميق وتعبئة الموارد البشرية والمادية. لذلك فإن وصفهم للحرب بأنها حرب وجودية هو في الحقيقة إنعكاس حقيقي لما يشعرون به من تهديد لمستقبلهم السياسي في أي معادلة سياسية قادمة تأتي بنظام ديمقراطي تعددي حقيقي. وبالنسبة لهم قبول التعايش السياسي أو المشاركة المتساوية مع الآخرين هو بمثابة تلاشي لسلطتهم المطلقة. هذا الإحساس بالتهديد الوجودي هو ما يدفعهم إلى الرفض القاطع لأي مراجعة نقدية لتجربة حكمهم الطويلة التي كانت السبب الرئيسي في التدهور المريع للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية في البلاد.
أعتقد أن المشكلة الجوهرية تكمن في عقليتهم الإقصائية التي ترفض التعامل مع الآخر أو الإعتراف بشرعيته السياسية، فمنذ سقوط نظامهم، لم يبدي الإسلاميون أي محاولة جادة لـلمراجعة ونقد موضوعي لتجربة حكمهم التي إستمرت أكثر من ثلاثين عامًا، والتي أسست لعزلة دولية، وحروب أهلية، ثم إنقسام السودان. فالإستمرار في هذا النهج يُبرهن على أن هدفهم الأسمى هو إستدامة السيطرة، حتى لو كان الثمن حرق كل السودان. وعدم المبالاة تجاه مصير الشعب السوداني، وهذا يترجم أن الأولوية العليا لـبقاء نفوذهم على بقاء الوطن. فهم يسعون إلى حكم ما يتبقي تحت قبضتهم بدلًا من القبول بالهندسة السياسية التي تمنح الآخرين مساحة متساوية في وطن موحد يسع الجميع..
يخدعون الشعب بـنظرية المؤامرة لتبرير إخفاقاتهم وتعبئة مؤيديهم، زاعمين أن قوى خارجية أو علمانية تتآمر على تدمير الإسلام وتقسيم السودان. والمفارقة هنا هي أن تصرفاتهم ورفضهم لأي حلول هو ما يساهم فعلياً في تمدد المؤتمرات الخارجية وتغذيتها، لأن الإصرار على إستمرار الحرب وإستخدام الجيش يجعل الصراع محط إهتمام القوى الإقليمية والدولية.
كما أن رفضهم لأي حلول يدفع البلاد فعليًا نحو التآمر الدولي والضياع والتقسيم الذي يدعون أنهم يحاربونه، مما يحول إدعاء المؤامرة إلى واقع مرير.
على الإسلاميين إنقاذ أنفسهم من فخ الإقصاء، فمستقبلهم المرير لن يقتصر عليهم بل سيجرّ معه الوطن بأكمله إلى الهاوية. فأذا أرادوا النجاة فعليهم تفكيك العقلية الإقصائية السيطرة عليهم والتوقف عن إستخدام الأيديولوجيا كأداة للهيمنة. وعليهم أن يدركوا أن بقاءهم السياسي في المستقبل يعتمد على المراجعة النقدية الشجاعة لتجربتهم وقبولهم بأنهم تيار سياسي كأي تيار، وليسوا تجسيدا وحيدا للوطن والاسلام.
وأخيراً فان المخرج من هذه الازمة المعقدة يكمن في تفعيل إطار وطني يضمن التعددية السياسية من خلال الحكم المدني وتأسيس جيش وطني موحد خاضع للسلطة السياسية وفصل الدين عن الدولة كضمانة لحقوق جميع المكونات.
وإن أراد الإسلاميون البقاء كجزء مؤثر في هذه المعادلة فلا بد لهم من القبول الكامل بالآخر مهما إختلفوا معه والإعتراف بحق جميع الأطراف في الحكم وإلا فإن فنائهم سيكون مستقبلهم المرير. إن إنقاذ السودان يتطلب أن يتجرد الجميع، عن مصالحهم الضيقة ويقدموا مصلحة الوطن فوق كل إعتبار.
*احمد عثمان محمد المبارك*





