المستنفرون: من اداة دعم إلى مصدر تهديد
حيدر المكاشفي
شهدت الساحة السودانية في الآونة الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم والإنتهاكات التي يرتكبها المستنفرون المسلحون التابعون للجيش السوداني. وتشير بعض المعلومات والحوادث الموثقة إلى أن الفترة الأخيرة شهدت تزايداً في الجرائم والإنتهاكات التي يرتكبها المستنفرون المسلحون، وتم رصد وتوثيق عشرات حوادث قتل نفذها مستنفرون في مناطق متعددة، نذكر منها القليل على سبيل المثال، الجريمة المأساوية البشعة التي وقعت في منطقة الحلفايا ببحري وإهتزت لها المنطقة، حيث اقدم أحد المستـنفرين وهو محمد العاقب مالك بإرتكاب جـريمة قتل حصد فيها أرواح خمسة من أسرته، وهم عبدالعزيز مالك العاقب، أحمد مالك العاقب، رجاء مالك العاقب، فاطمة مالك العاقب، إسماعيل زوج رجاء مالك إبن عمها وهم أولاد بحريه صديق محمد صديق، وعلي ذمة الزميل الطاهر ساتي شهدت مدينة دنقلا جريمة قتل أخرى رمياً بالرصاص القاتل مستنفر في حالة سكر و المقتول شرطي، وسبق أن وثقت هيئة محامي الطوارئ عشرات الحوادث المماثلة لجرائم قتل نفذها مستنفرون في مناطق متعددة، ما يعكس نمطاً مقلقاً من الإنتهاكات التي ترتكب بحق المدنيين تحت مظلة التسليح غير المنضبط. وقالت المجموعة في أحد توثيقاتها إن أربعة مدنيين قتلوا في قرية القربين بمحلية الدالي والمزموم بولاية سنار على يد مسلح مستنفر تابع للجيش، في جريمة مروعة وقعت بالقرب من مركز الشرطة والإستخبارات العسكرية، وأفاد موقع (دارفور24) بحسب مصدر عسكري أن مجموعة من المواطنين المستنفرين إقتحمت مركز شرطة مدينة أمبرو بولاية شمال دارفور، ونهبت مخازن الأسلحة وإحتجزت مدير القسم، في خطوة إحتجاجية على ما وصفوه بضعف أداء الشرطة في مواجهة الإضطرابات الأمنية المتصاعدة في المنطقة، كما شهدت منطقة الطينة عمليات إقتحام ونهب ليلي إستهدفت عدداً من المحال التجارية، نفذها مستنفرون غاضبون، وغير هذه الحوادث التي أوردناها على سبيل التمثيل هناك الكثير من الحوادث الشبيهة التي وقعت في مناطق متفرقة ومتعددة من البلاد..
إن هذا الذي يجري على يد بعض المستنفرين ليس مجرد إشارة عابرة، بل يعد مؤشراً بالغ الخطورة على توسع دائرة العنف خارج إطار الضبط العسكري، بما يهدد الأمن المجتمعي، ويقوّض إحتكار الدولة لإستخدام القوة، ويجعل حياة المواطنين رهينة لسلوك مجموعات غير منضبطة ولا خاضعة لرقابة مؤسسية واضحة.. نعم صحيح تاريخياً، إن الدول خلال الحروب الممتدة تلجأ إلى استنفار المدنيين وتسليحهم كقوات مساندة. لكن هذا الإجراء، الذي يُفترض أنه طارئ ومرتبط بظرف استثنائي، بدأ في الحالة السودانية يتحول إلى حالة شبه دائمة، وبلا خطوط فصل واضحة بين المقاتل النظامي والمسلح المدني. ومع غياب التدريب الكافي، وغياب التسلسل القيادي المحكم، وغياب المساءلة، يصبح المسلّح المستنفر كياناً بلا ضوابط. وهنا تكمن الخطورة حين يكون السلاح دون انضباط، والقوة دون قانون. وتشيرعشرات الانتهاكات التي وثقتها جهات متعددة إلى أن عناصر المستنفرين يتصرفون عملياً باعتبارهم فوق القانون. فعندما لا تكون هناك جهة رقابية واضحة تقودهم، ولا نظام محاسبة يطال تجاوزاتهم، يتولد شعورٌ بالحصانة المشجعة على تكرار الجرائم. مع ملاحظة أن الانتهاكات لم تحدث فقط في نقاط القتال، بل أيضاً في مناطق متعددة، وهذا يعني أن الظاهرة تتسرب إلى عمق المجتمع، من القرى إلى المدن، وتتحول إلى تهديد عام لحياة المدنيين. فالمستنفرون وإن جرى تقديمهم كقوة مساندة يتحركون باسم الجيش السوداني، ويتشحون بلباسه، مما يجعل كل انتهاك يقومون به محسوباً على المؤسسة العسكرية نفسها، ويمسّ آخر ما تبقى من ثقة المواطنين بها. ومن المؤكد ان هناك آثار اجتماعية وسياسية مترتبة على هذا الانفلات، فحين يصبح السلاح في يد مجموعات غير منضبطة، فإن العلاقات المجتمعية تتعرض لتشوهات خطيرة. الناس يفقدون الإحساس بالأمن، ويضطرون إلى تكوين آلياتهم الخاصة للحماية، ما يفتح الباب لظهور مليشيات مضادة، ويقوّي النزعات القبلية. وتعيد ظاهرة المستنفرين إنتاج نمط الحروب الأهلية التي تنزلق فيها المجتمعات إلى العنف اللامركزي، حيث يتحول كل فرد مسلح إلى سلطة مستقلة، وكل اشتباك صغير إلى فتنة كبرى. كما لا يمكن لأي عملية تفاوض أو تسوية سياسية أن تنجح بينما السلاح منتشر خارج سيطرة الدولة، إذ يصبح وقف إطلاق النار غير قابل للتنفيذ، وتصبح الدولة نفسها عاجزة عن فرض أي اتفاق. إن استمرار هذه الممارسات يهدد بخلق جيل كامل من المسلحين الذين تعودوا على ممارسة العنف خارج سلطة القانون. وإذا لم يُتخذ إجراء صارم الآن، فإن السودان سيواجه مشاكل وتعقيدات لا حصر لها، ولهذا وجب وضع حد عاجل لهذه الظاهرة المقلقة حتى لا تنداح اكثر فاكثر ويتسع الخرق على الراتق ولات ساعة مندم..





