هل الإخوان جادّون في حرب الميليشيا؟

من بعيد: نشأت الإمام
منذ سقوط نظام البشير، لا يزال خطاب الإخوان المسلمين تجاه قضية الميليشيات في السودان مليئًا بالتناقض والمراوغة.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن خطر تعدد الجيوش وتهديده لبقاء الدولة، لم نسمع من قيادات الإسلاميين، بعد سقوط نظامهم، دعوةً صريحةً إلى حل قوات الدعم السريع أو توحيد السلاح تحت رايةٍ وطنيةٍ واحدة.
لقد آثروا الصمت، وكأنّ المسألة لا تعنيهم، أو كأنّهم في إنتظار ما تؤول إليه موازين القوة ليحددوا موقفهم تبعًا لمصالحهم.
ومن العجائبِ أن ترى متشدقًا
بالحقِّ وهو إلى الضلالِ يسيرُ!
بل إنّ بعض رموزهم ذهبوا إلى النفاق العلني، فإمتدحوا الدعم السريع، وتغنّوا ببطولاته، واعتبروه صمام أمانٍ للوطن.
ولم يكن ذلك خافيًا، فقد قالت إحدى القياديات الإسلاميات في قاعة الصداقة إن الكنداكات في أمانٍ بفضل قوات الدعم السريع، في مشهدٍ يعكس مدى إستعدادهم لتبديل المواقف ما دام الولاء للسلطة لا للوطن.
وفي المقابل، وجَّهوا كل سهامهم نحو القوى المدنية، وصوّروها عدوًا رئيسيًا، وسعوا لإعادة السلطة إلى يدٍ عسكريةٍ عليا، تضمن لهم النفوذ وتقصي دعاة الديمقراطية والحرية.
لقد حلموا باستبدادٍ جديد، تكون فيه اليد العليا للجيش وكتائب الظل، ويُستوعب فيه الدعم السريع شريكًا صغيرًا في منظومة القهر القديمة.
يخدعون الناسَ باسمِ الوطنِ،
والوطنُ عندهمُ غنيمةٌ تُقسمُ!
أما الذين طالبوا بجيشٍ وطنيٍّ مهنيٍّ واحد، فهم المدنيون الذين أدركوا أن الدولة لا تستقر بتعدد البنادق، ولا تقوم المؤسسات على إزدواج الولاء.
لكن حين تغيّرت موازين القوة، وخرجت الميليشيا عن عباءة الإسلاميين، تبدّل الخطاب فجأة، وصاروا أكثر من يتحدث عن “خطر الميليشيات”، وكأنّهم إكتشفوا ما كانوا يزرعونه منذ عقود.
ما بدّلوا وجوهَهم إلا ليُخفوا وجهَهم،
فالنفاقُ عندهمُ قناعٌ لا يسقطُ!
الميليشيا لم تصبح في نظرهم خطرًا إلا حين نازعتهم على النفوذ، وحين خرجت من وضع “الشريك الأصغر” إلى منافسٍ في السلطة.
أما من حيث المبدأ، فلم يكن لهم يومًا موقفٌ ضد التمليش، لأن حركتهم الإسلامية في أصلها حركةٌ ميليشياوية، نشأت على فكرة التنظيم المسلح، وإمتلكت كتائب الظل، وأدلجت الجيش حتى صار يصنع الميليشيات كما تُصنع الأدوات.
عجِبًا لمن صَنَعَ الوحشَ ثم اشتكى،
يَصرُخُ من أنيابهِ، وهو من ربّاهُ!
وفي لحظة صدقٍ نادرة، عبّرت الناطقة بإسمهم سناء حمد عن جوهر موقفهم الحقيقي حين قالت: «إن جنحت الميليشيا للسلم، سنجنح له»، مستشهدةً بالآية الكريمة.
وعندما سألها مقدم البرنامج عن القوى المدنية والسياسيين، أجابت بما يفضح الحقيقة: إن العدوّ في نظرهم ليس الميليشيا، بل المدنيون والديمقراطية نفسها.
فما يخشاه الإسلاميون حقًا ليس السلاح، بل الكلمة، وليس الرصاصة، بل صندوق الاقتراع.
ما خافوا المليشيا يومًا، بل خافوا الكلمة،
فصوتُ الشعبِ أوجعُ من الرصاصِ!
إنّ من يتأمل مسار الإسلاميين في السودان يدرك أنهم لم يؤمنوا يومًا بالجيش المهني القومي،
بل سعوا إلى تحويله إلى أداةٍ حزبيةٍ وعقائدية،
ووظّفوا الميليشيات كذراعٍ موازٍ يضمن إستمرار سلطتهم مهما تغيّرت الأنظمة ولا زالت المليشيات تتوالد وتتناسخ من لدن رحمهم.
واليوم، حين فقدوا السيطرة، عادوا يتحدثون عن خطر التمليش،
وكأنهم غرباء عن صنيعتهم.
ومن زرعَ الريحَ لا يَرجو حصادًا،
إلا عاصفًا يَهُزُّ العروشَ والأعلامَ!
إنّ الدعوة لتوحيد الجيش اليوم ليست شعارًا عابرًا،
بل هي امتحانٌ وطنيٌّ يكشف صدق المواقف.
فمن كان حقًا حريصًا على الوطن، فليبدأ بتفكيك إرث الميليشيا الذي زرعه بنفسه،
وليعترف بأنّ الخطر الحقيقي ليس في البندقية المنفلتة فقط،
بل في العقل الذي ربّاها وسوّغ وجودها .





