ترامب … خطاب يكشف أكثر مما يقول

بقلم : عثمان فضل الله
في خطابه الأخير، لم يقدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفًا سياسيًا بقدر ما كشف عن نظرة أميركا إلى السودان، وبطريقة كانت فيها لغة الجسد أبلغ من الكلمات نفسها. فحين قال ترامب: “There’s a place on earth called Sudan”، انحنى قليلًا إلى الأمام، ورفع حاجبيه في حركة أقرب إلى من يخبر الآخرين باكتشاف طارئ أو أمر لا يكاد يصدق. كانت الجملة مصحوبة بابتسامة جانبية قصيرة — تلك الابتسامة التي يستخدمها الرجل عادة حين يستخفّ بشيء أو يقلّل من أهميته. الرسالة كانت واضحة: السودان ليس حاضرًا في وعي واشنطن، بل بلد خارج الرادار.
ثم انتقل إلى عبارته الأكثر خطورة: “I viewed it as being just sort of a freelance — no government, no this, no that.”
قالها وهو يلوّح بيده اليمنى في حركة متقطعة، وكأنه يُبعد شيئًا غير منضبط أو يدفع فوضى لا يريد الاقتراب منها. كلمة freelance هنا لم تكن توصيفًا لغويًا، بل حكمًا سياسيًا: سودان بلا حكومة يُعتد بها، بلا مركز قرار، بلا دولة يمكن مخاطبتها.
وما بين الوقفات القصيرة والتنهيدة التي أطلقها قبل قوله: “It was crazy and out of control”، بدا ترامب وكأنه يعيد توصيف الملف السوداني باعتباره “فوضى بلا جدوى”، ملفًا لا يدخل أولوياته، ولا يساوي جهدًا سياسيًا من تلقاء نفسه.
لكن التحوّل جاء حين أشار إلى ولي العهد السعودي. فحين ذكر الأمير محمد بن سلمان، استقام في جلسته قليلًا، وتغيّر وجهه من اللامبالاة إلى الجدية، وقال:
“He explained the whole culture, the whole history… it was really amazing.”
كان ذلك اعترافًا صريحًا بأن السعودية — لا السودان — هي التي أدخلت الملف إلى مكتب القرار الأميركي. وأن اهتمامه المفاجئ بدأ قبل “ثلاثين دقيقة فقط”، كما قال، في جملة تنقل هشاشة اللحظة وقلة عمقها.
نبرة ترامب، وتقلّبات صوته، ونظراته نحو الحضور، كلها قالت ما لم يُقل نصًا:
السودان اليوم ليس لاعبًا في عيون واشنطن، بل موضوع يُدفع إليها دفعًا.
ودوره يُصاغ من الخارج لأن صوته الداخلي غائب ومؤسساته منهارة.
الدرس من الخطاب لا يتعلق بترامب وحده، بل بصدى الحقيقة التي نطق بها بحركات يديه أكثر مما نطق بها بلسانه:
إذا لم يستعد السودانيون دولتهم وصوتهم، فسيستمر العالم في الحديث عن السودان كما تحدث ترامب… بلد منسيّ، مفكك، بلا حكومة، وبلا وزن، إلا بمقدار ما يرغب الآخرون فيه.
لم يكن خطاب ترامب مجرد تصريح عابر، بل مرآة قاسية عكست صورة السودان كما يرى نفسه عبر الآخرين: بلدٌ يتدلّى على حافة النسيان، يتذكّره العالم فقط عندما يضعه حليفٌ على الطاولة. وفي اللحظة التي قال فيها: “I view it differently now than I did just a day ago”، كان اعترافه — بلا عناء — أن مصير السودان يمكن أن يتغيّر في يومٍ واحد، بل في نصف ساعة، لا لأن السودانيين استعادوا ثقلهم، بل لأن آخرين تكفّلوا بالحديث عنهم.
وهنا يكمن الوجع الحقيقي.
أن تصبح أمة كاملة “مادة شرح” لطرف خارجي، تُقدَّم ثقافتها وتاريخها له في جلسة واحدة، وكأنها ملفٌ يُفتَح لأول مرة.
أن تُختصر مئة عام من الدولة الحديثة، وثلاث ثورات، وحكومات، ودموع وموت وخراب… في جملة قالها ترامب وهو يلوّح بيده: “No government, no this, no that.”
أن تكون مأساتك أمام العالم مجرد حركة يد، ومصيرك نقطة جانبية في حديث بين زعيم وولي عهد.
إن أكثر ما يثير الحزن ليس جهل ترامب بالسودان، بل اعتياده على جهله.
وليس استخفافه، بل سهولة الاستخفاف.
وليس ما قاله، بل أننا بتنا نسمع ما يشبهه في كل مرة يتحدّث فيها العالم عنّا، كأن السودان خرج من خارطة المعنى قبل أن يخرج من خارطة السياسة.
إن خطاب ترامب لا يدين السياسيين وحدهم، بل يدين اللحظة كلها: لحظة بلدٍ انكسر حتى لم يعد يتعرّف على نفسه في مرآة الآخرين. بلدٍ بات ثقيلًا على كتفيه، خفيفًا في عيون العالم، يبحث عن وزنه فلا يجد سوى الصدى.
ولعل أقسى ما في الأمر أن العالم يمكن أن يعطف، يمكن أن يتدخّل، يمكن أن “يشفق”…
عموما بلاشك نشكر ولي العهد السعودي لانه ذكر العالم بنا وتكفل بحمل اخفاق قادتنا ليقول للعالم هناك بلد أسمه السودان فيه بشر يذبحون ، لكن لا أحد سيمنح السودان نفسه إلا السودانيون.
ولا أحد سيعيد له مكانته ما لم ينهض من هذا الرماد الطويل، ويصوغ صوته ويرسم صورته التي يريد بيده، لا بلسان وريشة غيره.
حتى ذلك الحين، سيظل خطاب ترامب علامةً فارقة…
ليس لما قاله، بل لما كشفه من فراغ.





