المشهد السوداني الراهن: الحرب والوساطات واحتمالات التسوية

بقلم : محمد شمينا
منذ اندلاع الحرب في السودان، تتزاحم المبادرات الدولية والإقليمية بحثاً عن مخرج، لكنّ كل الجهود تبدو وكأنها تدور في فراغ سياسي لا يملك أرضًا صلبة كي يرتكز عليها. المشهد السوداني اليوم ليس مجرد صراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل نتيجة تاريخ طويل لدولة لم تكتمل منذ 1956، تشكّلت على مركز ضيق ونخبة محدودة بينما بقيت الأطراف خارج معادلة القوة والثروة. وفي ظل هذا الإرث المشوّه، جاءت الحرب الحالية كأكبر انفجار لبنية غير مكتملة منذ الاستقلال، حيث تصاعدت الانتهاكات وفُجّرت المجازر على أساس العرق والانتماء القبلي في مناطق مثل الفاشر، ما يؤكد أن الأزمة السودانية ليست نزاعًا عابرًا بل امتداد لتاريخ طويل من الانقسامات.

قبول قوات الدعم السريع بهدنة الرباعية جاء متوقعًا بحكم الضغوط والإنهاك، بينما كان موقف الجيش أكثر تريثًا وتحسبًا، ليس رفضًا كاملًا ولا قبولًا صريحًا، بل قراءة دقيقة لبنود الهدنة وما قد يُستغل منها لتغيير ميزان القوى أو إعادة التموضع. ومع أن الهدن تُطرح عادةً كخطوة إنسانية، إلا أن الطرفين يدركان أن أي وقف لإطلاق النار بلا ضمانات حقيقية قد يفتح الطريق لاستغلال الموقف، وهو ما يجعل تنفيذ الهدنة على الأرض أكثر هشاشة من مجرد الإعلان الرسمي.

على صعيد آخر، ظل الموقف الغربي غامضًا ومترددًا، كما ظهر في مؤتمر باريس الأخير، الذي حاول الحفاظ على لغة متوازنة تخلو من تحميل أي طرف المسؤولية الكاملة، بينما يبحث المجتمع الدولي عن ((استقرار أدنى)) على حساب العدالة والحقوق الإنسانية. هذا الغياب الفعلي للرقابة الدولية أعطى الضوء الأخضر لاستمرار الانتهاكات على الأرض، ما يجعل الحديث عن تسويات سياسية سطحية نوعًا من العبث الأخلاقي.

وتدخل الحرب في تشاد ودعم قوات الدعم السريع للحركات المعارضة هناك بعدًا جديدًا، إذ أصبح الصراع الآن جزءًا من الأمن الإقليمي. لم تعد الحرب قضية داخلية سودانية فحسب، بل صار لها تأثير مباشر على استقرار غرب أفريقيا وساحل البحر الأحمر، ما أجبر تشاد على إعادة قراءة سياستها تجاه السودان، وأظهر كيف أن النزاعات المحلية تمتد إلى الفضاء الإقليمي.

ولكن ما يجري ليس مجرد صراع مسلح، بل انعكاس للبنية المركزية التي تأسست منذ الاستقلال. فـدولة 56 التي أسسها النخبة النيلية لم تكن شاملة أو عادلة، واستمر هذا النمط في دولة 89، ما ترك الأطراف الأخرى في هوامش الحرمان السياسي والاقتصادي والثقافي. وهذا يفسر جزءًا من العنف المفرط والوحشية التي شهدتها مناطق بعينها الصراع ليس فقط على السلطة، بل على البقاء داخل دولة لم تُبنى على أساس العدالة والمساواة.

في هذا السياق جاءت مبادرة الأمير محمد بن سلمان بالتنسيق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، محاولة لكسر الجمود، وإيجاد مخرج من دائرة العنف. السعودية ترى أن انهيار السودان يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن البحر الأحمر واستقرار المنطقة، بينما ترامب أكد أن الحرب السودانية كانت نتيجة “فراغ قيادي” في الإدارة الأمريكية، وأن واشنطن تركت المجال للقوى الأخرى لتملأ المشهد. وأوضح ترامب أن دوره هو إعادة فرض التوازن وإيقاف تمدد النفوذ الروسي في المنطقة، فيما شدد على أهمية تدخل شركاء إقليميين مثل السعودية، الإمارات، ومصر لضمان تنفيذ وقف النار على الأرض.
لكن المبادرة، مهما كانت تحمل نوايا حسنة، تطرح تحديات كبيرة. فهي قد تعيد إنتاج الوصاية الدولية، إذ يبقى السؤال: هل تستطيع أي مبادرة خارجية أن تعالج جذور الأزمة العميقة في السودان، أم أنها مجرد وسيلة لإعادة توزيع النفوذ الإقليمي؟ وفي الوقت نفسه، فإن استمرار القوى المدنية في غياب رؤيتها الموحدة يجعل البلاد رهينة قرارات عسكرية ومصالح خارجية، فيما الإسلاميون الذين خرجوا من الحكم المباشر ينتظرون من وراء الستار فرصتهم لاستثمار كل انقسام وفوضى.
وإلى جانب ذلك، هناك أسئلة وجودية عن مستقبل الدولة نفسها. هل يمكن للحرب أن تُحسم عسكريًا، أم أن جذورها أعمق من قدرة أي طرف على فرض نهاية قاطعة؟ هل من الممكن أن تقوم دارفور ككيان مستقل في حال انفصالها، وهل ستسمح دول الجوار، ذات مصالحها ومخاوفها، بوجود مليشيا مسلحة على حدودها؟ وهل يمكن للسودان أن يظل دولة واحدة قادرة على إدارة موارده وحماية مواطنيه؟ كل المؤشرات التاريخية والجغرافية تقول إن تفتيت السودان أو دارفور لن يؤدي إلى دولة مستقرة، بل إلى حروب لا تنتهي بين مكونات أضعفت عمدًا لتظل محتاجة لمن يرعاها.
وبين هدنة الرباعية والمبادرة السعودية‑الأمريكية، وبين الضغوط الدولية وإصرار الجيش على الحذر، تبقى الحقيقة المؤلمة: الحل لا يمكن أن يأتي من الخارج فقط. السودان يحتاج إلى مشروع وطني يعيد بناء الدولة من الداخل، مشروع قائم على العدالة والمواطنة، بعيدًا عن منطق المركزية الإقصائية، بعيدًا عن اللعب الإقليمي، بعيدًا عن الحروب التي تغذيها أطراف داخلية وخارجية على حد سواء. القوى المدنية الوطنية هي الرهان الحقيقي، فهي وحدها القادرة على وضع رؤية شاملة، تحمي البلاد وتمنع تكرار التاريخ.
وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الدماء التي تُسفك في الفاشر والخرطوم وكردفان اليوم هي النتيجة المباشرة لغياب هذا المشروع الوطني. وكما عبّر جون قرنق في الخرطوم بعد اتفاقية السلام: “لا شمال بلا جنوب ولا جنوب بلا شمال… بس يكون في سودان”، تصبح الدعوة اليوم أكثر إلحاحًا، ليبقى السؤال الأكبر: هل سيظل السودان دولة يمكن أن تُحكم، أم أنه سيستمر في الانزلاق نحو الخرائط التي تُرسم بالدم، مرة بعد مرة؟
في النهاية، كل المبادرات، من هدنة الرباعية إلى مبادرة بن سلمان وترامب، تحمل معها أملًا محدودًا، لكنها ليست حلاً كاملاً. السودان يحتاج إلى أكثر من هدنة أو وساطة خارجية؛ يحتاج إلى مشروع دولة حقيقي، إلى إعادة بناء مؤسساتها، وضمان حقوق المدنيين، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة. وإلا، سيظل البلد حبيس دورة الصراعات التاريخية نفسها، بين وصاية قديمة وأطراف محلية مستمرة في إعادة إنتاج الانقسامات، بينما الشعب يدفع الثمن الأكبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى