السودان بحاجة إلى إنتقال موثوق من الحكم العسكري
إن السلام في السودان يعني أن عصر الجنرالات الذين يقررون مصير البلاد يجب أن ينتهي
بقلم: نيجر إينيس – ذا ناشيونال إنترست
يقف السودان عند مفترق طرق خطير، والمخاطر تتجاوز الخرطوم بكثير. يتقاطع مصير هذه الأمة الممزقة الآن مع مصالح أمريكا في البحر الأحمر والشرق الأوسط، ومع الحرب الأوسع ضد التطرف المسلح. لفترة طويلة، دارت دبلوماسية واشنطن حول حقيقة جوهرية: طالما ظل الفريق عبد الفتاح البرهان القائد العسكري والرئيس الفعلي للدولة، فلن يكون هناك سلام حقيقي للحرب الأهلية في السودان، ولا إنتقال حقيقي، ولا شراكة مستدامة بين السودان والعالم الديمقراطي. إن قبضته المزدوجة على السلاح والحكومة تجعل كل مفاوضات مسرحية هزلية، وكل وقف لإطلاق النار إستراحة قبل الهجوم التالي.
ورثت إدارة ترامب إرثًا معقدًا في القرن الأفريقي. وهي الآن أمام فرصة لتصحيح المسار من خلال الوضوح والإقناع بدلًا من الجمود. في 12 سبتمبر، أصدرت “الرباعية” (التي تضم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر) بيانًا كان من المفترض أن يكون نقطة تحول. فقد أعلنت بشكل لا لبس فيه أنه “يجب ألا يكون للإخوان المسلمين أي دور في مستقبل السودان”. وحثت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على وقف الأعمال العدائية وتسليم السلطة إلى إدارة إنتقالية مدنية. إلا أن رد البرهان كان تحديًا. لم يرفض جيشه الدعوة إلى وقف إطلاق النار فحسب، بل كثف أيضًا ضرباته حول أم درمان والممر الشرقي، مما ضمن بقاء كل طاولة سلام محاطة بدخان المدفعية الجديدة.
كان ترسيخ البرهان لسيطرته منهجياً: فقد عيّن رؤساء وزراء ووزراء موالين له، وأعاد ترتيب كبار الضباط، وأعاد دمج الميليشيات الإسلامية في هرم القوات المسلحة السودانية، واستبدل المعارضين المحتملين بحلفاء أيديولوجيين. لقد إندمجت قيادته العسكرية مع الحكم السياسي. هذا الدمج بين القوة والحكم هو تحديداً ما أفشل التحولات السابقة في تاريخ السودان الحديث . ففي كل مرة وعد فيها الجنرالات بالإصلاح، لم يفعلوا سوى إعادة صياغة إحتكارهم للسلطة.
في هذه الأثناء، أصبحت الخسائر البشرية لا تُطاق. مدن بأكملها، مثل الفاشر ، محاصرة أو مُقسَّمة. تُقدِّر الأمم المتحدة أن ما يقرب من نصف سكان السودان – حوالي 25 مليون نسمة – يواجهون جوعاً حادًا أو مجاعة. إنهارت المستشفيات، والمعلمون لا يتقاضون رواتبهم، وملايين المدنيين عالقون بين جبهات القتال التي تتغير يومياً.
التداعيات الإقليمية لا تقل خطورة. يُعدّ ساحل السودان على البحر الأحمر أحد أهم شرايين العالم الإستراتيجية للتجارة والطاقة. ويُهدد تسليح السودان، المتشابك مع الفصائل الإسلامية والمصالح الإيرانية ، بزعزعة إستقرار هذا الممر. وقد أعقب عودة طهران إلى السودان بعد سبع سنوات من القطيعة الدبلوماسية وصول طائرات بدون طيار وأنظمة دفاع جوي و”مستشارين”. وإذا تُركت إيران دون رادع، فستستخدم السودان كرأس جسر نحو البحر الأحمر ونقطة ضغط على إسرائيل والقوات الأمريكية في المنطقة. وبهذا المعنى، لم تعد معركة السودان محلية، بل هي صراع على النظام الإقليمي نفسه.
لذا، يجب أن يبدأ منطق الإنتقال من حيث فشلت الجهود السابقة: بإزالة البرهان فوراً من المعادلة. فالتفاوض معه، وهو لا يزال قائدًا للجيش والخزانة وأجهزة المخابرات، هو تفاوض مع ذات الهيكل الذي يُديم الحرب. على واشنطن أن توضح أن إستمرار مشاركتها ومساعداتها وشرعيتها الدبلوماسية تتوقف على شرط مسبق واحد: إستقالة البرهان وتشكيل حكومة مؤقتة مدنية تكنوقراطية تحت إشراف دولي.
لا ينبغي أن تكون مثل هذه الحكومة ضخمة . يجب أن تكون صغيرة و منضبطة ومحددة زمنياً – من اثني عشر إلى أربعة وعشرين شهرًا – لإعادة بناء مؤسسات الدولة الأساسية، واستعادة المصداقية المالية، والتحضير للانتخابات. يجب أن تكون الرقابة المدنية على الجيش غير قابلة للتفاوض: يجب نقل سلسلة القيادة إلى وزير دفاع مدني، وفتح الميزانيات للتدقيق، ودمج التشكيلات شبه العسكرية أو حلها بموجب القانون. يمكن لمجلس تناوب من التكنوقراط – وليس النخب السياسية – إدارة المرحلة الانتقالية، بدعم من الشركاء الإقليميين والمجتمع الدولي. هذا النهج ليس نظرياً؛ فهو مستوحى من سوابق ناجحة في ليبيريا وتونس، حيث ساعدت الإدارات التكنوقراطية المؤقتة في إعادة ضبط البوصلة الوطنية بعد سنوات من الانقسام.
بالنسبة لإدارة ترامب، تُمثل هذه فرصةً لتعريف مبدأ الواقعية البنّاءة – عقيدةٌ حازمةٌ بما يكفي لحماية المصالح الأمريكية، وعمليةٌ بما يكفي لتمكين الملكية المحلية. إن ربط جميع المساعدات بإحراز تقدمٍ مُتحققٍ في السيطرة المدنية وإصلاح قطاع الأمن سيُشير إلى الجدية. إن إنشاء هيئة رقابة متعددة الأطراف مع الرباعية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي سيُوفر للإصلاحيين في السودان الغطاء اللازم للتحرك. إن ضمان ممرات إنسانية – محميةٌ وخاضعةٌ للمراقبة ومعزولةٌ عن التدخل العسكري – سيُؤكد القيادة الأخلاقية الأمريكية في وقتٍ يتزايد فيه التشكيك العالمي في التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية.
قد يجادل النقاد بأن المطالبة بخروج البرهان تُهدد بزعزعة الاستقرار. لكن الحقيقة هي عكس ذلك: استمرار حكمه يضمن ذلك. فكلما بقي يوماً، ترسخت الشبكات الإسلامية، وتوسع النفوذ الإيراني، وتفاقمت الكارثة الإنسانية. الإستقرار المبني على القمع والخداع سراب؛ فالنظام الحقيقي لا ينبع إلا من الشرعية. كلما طال أمد إستسلام واشنطن لوهم أن البرهان قادر على إشعال الحرائق وإطفائها، إمتدت النيران – من الخرطوم إلى القاهرة، ومن بورتسودان إلى الخليج.
لا يطلب الشعب السوداني معجزات، بل يطالب بالعدل والكرامة وحكومة تحكم لا حكومة نهب. على إدارة ترامب أن تقود تحالفاً يُصرّ على هذا المبدأ. يجب أن تكون الرسالة حازمة وبسيطة: لقد ولّى عهد الجنرالات الذين يقررون مصير السودان. يجب أن يعود الجيش إلى ثكناته، وأن تبقى المساجد بعيدة عن الوزارات، وأن يمسك المدنيون أخيراً بالقلم الذي يكتب دستورهم.
إذا تصرفت الولايات المتحدة بوضوح – بترسيخ دبلوماسيتها في إطار الشروط، وجمع حلفائها حول استراتيجية واحدة، ورفض إضفاء الشرعية على النفاق العسكري – فسيظل بإمكانها المساعدة في توجيه السودان نحو الحداثة والإستقرار. لكن إذا ترددت واشنطن، فلن يقتصر ثمن ذلك على أرواح السودانيين فحسب، بل سيُدفع أيضًا بفقدان مصداقيتها، وضعف ردعها، وتنامي تطرفها عبر البحر الأحمر. لن يغفر التاريخ التأخير. سيتذكر من كان يملك القدرة على إنهاء هذه الحرب، واختار الانتظار.
*نيجر إينيس* هو الرئيس الوطني لمؤتمر المساواة العرقية (CORE)، أول منظمة يقودها السود تعترف بها الأمم المتحدة، وهو يشغل حاليًا منصب عضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.





