حكاية من بيئتي

حكاية من بيئتي

(16) 

الخمجان

فيلابي

ــ والله خالي الحسين جابلو رادي موبيليا.

ومن دكان جاد الله انتقل الخبر إلى معظم بيوت الحلة. وقد كان شباك الدكان يزدحم بالنساء، يتلاقين عند الأصيل لشراء إحتياجات الغد، ويلتقطن من الأخبار ما يشكل زاداً للمساء. ومنهن من تأتي فقط من أجل لقاء الأخريات.

وفي أقل من ساعة كان الخبر قد طقش آذان ست الجيل، لتلفح ثوبها الوحيد، وتكمل ارتداءه في الشارع. فالتقت بود النور مهرولاً تجاه بيت الحسين، ليبادرها. 

ــ قالوا الخمجان جاء من البندر وجابلو رادي (موديل أ).

ــ وده كيفنو كمان؟

ــ ترانا ماشين نشوف.

كان الحسين مدركاً أن ابن أخته سينشر الخبر على أوسع نطاق، وأن أهل الحلة لن يطيقوا صبراً حتى يروا العجيبة التي أتي بها، والتي جاءت في أعقاب انقطاع خبر رادي العمدة الذي (كضم) بعد يومين من استجلابه، دون أن يراه سوى نفر قليل، ليس من بينهم من يستطيع أن يشبع فيهم نهم حب الاستطلاع من أمثال ست الجيل وود النور. وحتى الذين حاولوا التلصُّص في ذلك اليوم من فتحات باب السرايا لم يستطيعوا رؤية شيء أكثر من الأشجار، بجانب أن العمدة آثر أن يضع الرادي داخل بهو السرايا. وبدأت التخمينات تمشي على ساقين من الشغف والجهل بما يمكن أن يكونه هذا الذي يحدث الناس، لكنه لا يرد عليهم. واستسلموا عندما قيل لهم أنه (كضم) ليدخل في قاموسهم الخاص تعبير جديد (الرادي كضم). وتبيّن بعد سنوات أن طاقة بطاريته قد فرغت فحسب، ليصبح احدى قطع ديكور السرايا.

في الخبر الجديد ثبُتت كلمة (رادي)، وتحوّر ما بعدها. فمثلما نطقها ود النور بوصفه أحد الدارسين في فصل محو الأمية (موديل أ)، ظن البعض أنها (رادي مو بي الياي). وزاد عليها البعض..

ــ قالوا ما زي رادي العمدة، ده بشتغل بي التيلة.

وهكذا عبر الخبر والتخمينات الحوائط الفاصلة، والنفاجات الواصلة، وانتشر أمل رؤية ما حرموا منه قبلاً، ذلك أن الحسين الخمجان يسعد برؤية الناس تتزاحم في حوشه مثلما كان الأمر يوم أن جاء بـ (أولاد حاج الماحي). وبعض المغنين في عدة مناسبات، فهو الخمجان. 

ــ يابت يا نفسية رشي الحوش وفرشيهو الناس جايين يشوفوا البنقل مديح ولاد حاج الماحي، وغناء الطنابرة وغيرو.

وقبل أن تكمل نفيسة المهمة، كان وفد المقدمة من المستطلعين قد وصل بالفعل، فقام بعضهم بمساعدتها في بسط فُرُش السعف (السباتات)، وإخراج العناقريب ورصها. ووصل بعض الأعيان وكبار رجال القرية مهنئين بسلامة العودة في الظاهر، وفي الحقيقة هناك من كان قد أوصي الحسين ببعض الأغراض من المدينة، ومن يتوقع خطاباً أو بعض المصاريف من هناك. ومنهم من انتزعه من بيته خبر الراديو.

جاء أحد الصبية بمنضدة عالية، وضعها إيذاناً بخروج (العروسة)، فاشرأبت الأعناق، وتركزت النظرات على مدخل الصالون. وفجأة علت الهمهمات حين ظهر الصندوق الخشبي يحمله الحسين بنفسه، حتى أن ست الجيل لم تتمالك نفسها، فأطلقت زغرودة ممطوطة، انتزعت الابتسامات والضحكات هنا وهناك، مع ضحكة سعادة من الحسين..

ــ الله يجازي محنك يا ست الجيل، الشيء رادي ساكت.

ربط البعض ممن ضحكوا الزغرودة بواحدة من صفحات الكتاب السري للقرية، كتبت فيها قصة عشق من طرف واحد. فالحسين الذي يمت بصلة قرابة من جهة الأب لست الجيل، هو الرجل الوحيد الذي أحبته في صمت فضحته بعض الإيماءات على مدى العشرين عاما الماضية، وحتى هذه الزغرودة.

وتبرع أحد الأعيان ليقول عن الحسين ومبادراته القيمة، إن كان من خلال استضافة أولاد حاج الماحي، أو فتح داره للمرشد الزراعي ليلتقي بالمزارعين قبل أن يزورهم في حقولهم، وحين يأتي فريق وقاية النباتات، وحتى فريق السينما المتجولة حين يزور القرية. وها هو يعوّض الناس عن راديو العمدة الذي (كضم)، ويأتي براديو ماركة فيليبس، ودعا الحسين ليقوم بتشغيل الراديو، فانطلق صوت مقرئ يرتل آيات ما قبل صلاة آذان المغرب، وكان بعض الشباب يوزعون الأباريق، ويبسطون فرش الصلاة.

وما أن فرغوا من صلاتهم حتى أعيد تشغيل الراديو، ليصدح مداح الرسول (ص) ببعض المدائح قبل أن تأتيهم نشرة الأخبار، والتي استمعوا لها بذات القدر من التركيز والاهتمام، فيما كان بعض الأطفال يقتربون ليروا المتحدث بالداخل، فينتهرهم الكبار، والذين من بينهم من كان يود أن يفتح الصندوق من الخلف ليرى كيف يتكدس كل هؤلاء في الصندوق. وكيف باحجامهم الصغير كما خيّل إليه تطلق كل هذه الأصوات. وحين جاءت مساحة الغناء نسي البعض كل شيء، وباتوا يتمايلون طرباً مع الأغنيات الشعبية، ويحاولون ضبط حركة أياديهم وأعناقهم مع الإيقاعات ودفقات الموسيقى. وتحول الجهاز إلى مرشد زراعي حين جاء البرنامج الذي يخاطبهم، ويعود بهم إلى حقولهم رغم غياب الشمس.

في ذلك اليوم من أوائل خمسينيات القرن الماضي دخل الراديو حياة أهل القرية، بعد أعوام قليلة من دخوله حياة السودانيين في مايو 1940، ليجد فيها كل مواطن يستطيع أن تصل أذنيه إلى صوتها ما يروق له. وقد ابتدع الروّاد الأوائل برامج تثقيفية ذات قيمة عالية، من قبيل ركن المزارع، ركن المرأة، وركن الطفل، وحتى نشر الوفيات، كانت نشرة الثامنة مساء كل يوم محط اهتمام لمتابعة أخبار الوفيات، كما كان أهل الميت يحرصون على الوصل إلى الإذاعة قبل الوصول إلى المقابر، وحينها كانت خدمة التلغراف والبوستة بعافيتها الأولى، وكذا البريد. وفوق هذه وتلك المصداقية التي تكلل كل الآعمال. أما حقيبة الفن، و(من ربوع السودان) فقد أسهمت في توحيد الوجدان السوداني وإثراء ذاكرته السمعية. والاحاطة المدروسة للتجربة الصوفية، ونهضة الأغنية. بل تم ربط السودانيين بالعالم حولهم، ووثقت صلتهم بالإذاعات الأجنبية تلك الأصوات السودانية التي نشرت الثقافة السودانية في المحيط الإقليمي والعالمي.

يذهب البعض إلى ثقافة أهل السودان السماعية وجدت ضالتها في الإذاعة، فسرعان ما انتشرت أجهزة الراديو في كل مكان. وتقزم راديو الخمجان الموبيليا ليجد مكانته في أحد أرفف كل دكان. وصنعت له أرفف خاصة في معظم البيوت، واصطحبه المزارع إلى حقله، وادخله البعض في سيارات المواصلات العامة. واستطاع عشاق الرياضة أن يجعلوا من صوت المعلق عيوناً يرون بها الملعب بمربعاته المبتدعة تسهيلاً للمتابعة (تجربة الكابتن طه حمدتو في التعليق الإذاعي الرياضي). وتقزم أكثر حين صنع منه ما يمكن حمله في الجيب (الترانزستور أو مذياع الجيب اخترع في عام 1947) محدثاً ثورة في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية من خلال إدخال أجهزة محمولة صغيرة ولكنها قوية ومريحة. وها قد أصبح خدمة يقدمها الهاتف المحمول.

نعمت الإذاعة في بداية عهدها، وحتى وقت قريب بمساحة من الاستقلالية والحرية، حيث لم تكن الدولة تتدخل في البرامج الثقافية والاجتماعية والدينية، حتى جاء عهد تكميم الأفواه، وأصبحت الإذاعة بوقاً للمسؤولين. بل حتى الإذاعات الإقليمية التي أنشئت بغرض ربط الأرياف باتت تحاكي إذاعة أمدرمان، وترتهن بحركة المسؤول الإقليمي، حتى بدا الناس يزهدون في خدماتها، ولجأ البعض للتلفزيون الخارج من رحمها 1993، مثلما خرج المسرح القومي في العام 1959.

وها قد إنتشرت المحطات الاذاعية، بل بات بإمكان أي شخص إنشاء إذاعته الخاصة على جهاز المحمول الذكي، وبعد التوحيد الوجداني، تفرق الناس أيدي سبأ.

أما الخمجان فلم يعد يستطيع أن (يخمج) وقد فقد الكثير جراء التوجهات السياسية، ومثلما (كضم) راديو العمدة، صمت مذياعه قبل أن يصمت هو نفسه، ويموت كمداً.

وإلى اللقاء في حكاية جديدة من بيئتي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى