سؤال بلا مجيب: من يمثل السودان في لحظته الأكثر قسوة.(1)

بقلم : محمد عمر شمينا
يظل سؤال (من يمثل الوطن؟) واحداً من أكثر الأسئلة إلحاحاً في التجربة السودانية الحديثة، لا لأن الإجابة عنه معقدة، بل لأن الواقع نفسه جعل من كلمة (الوطنية) صفة يمكن لأي طرف أن يرفعها، حتى وإن كان فعله في اتجاهٍ مضاد. فالمصطلحات حين تتكرر دون مضمون تتحول إلى ما يشبه الترديد اللغوي، تغطي فراغاً في الفعل وارتباكاً في الرؤية. وعلى مدى عقود، بقي تعبير (القوى الوطنية السودانية) مثالاً صارخاً لهذا النوع من المفاهيم التي تتفلسف في الخطاب لكنها تتراجع في الواقع.
ظهر هذا التعبير في سنوات ما بعد الاستقلال حين كان يُنظر إلى الأحزاب المركزية، والنقابات المهنية، والنخب المتعلمة، وبعض الإدارات الأهلية على أنها القوى التي تحمل عبء تشكيل الدولة الحديثة. تلك المرحلة، رغم هشاشتها، كانت تقوم على فكرة بسيطة،أن السودان يجب أن يُدار باعتباره دولة، لا مجرد تجمع قبلي أو جهوي،وأن التنوع الواسع الذي يعيشه يمكن أن يكون رصيداً لا خطراً. ولذلك جرى وصف تلك الأطراف بأنها (قوى وطنية)، لأنها حاولت على الأقل من حيث النية أن تتعامل مع السودان باعتباره وطناً مشتركاً.
ومع تطور الحياة السياسية، توسعت الدائرة التي يُنسب إليها هذا الوصف. دخلت فيها أحزاب جديدة، وتشكيلات مدنية، وحركات مسلحة انتقلت إلى السياسة، ومنظمات مجتمع مدني، وروابط مهنية. وفي كل هذه المسارات كان الخطاب الوطني حاضراً، وكانت الشعارات تتحدث عن الدولة الجامعة، وسيادة حكم القانون، والانتقال الديمقراطي. غير أن كثرة الشعارات لم تمنع انكشاف الواقع الحقيقي فبعض القوى التي تحدثت باسم الوطن كانت تمارس فعلاً محكوماً بمنطق الجهة أو العصبية أو المصلحة المباشرة. هكذا بدأ المفهوم يفقد صلابته، وصار قابلاً لأن ينطبق على أطراف متناقضة تماماً، لا يجمع بينها سوى الرغبة في تزيين موقفها بعبارة (الوطني).
لكن المجتمع نفسه كان ينتج بعيداً عن مقرات الأحزاب قوى أخرى تحمل معنى مختلفاً للوطنية، معنى أقل صخباً وأقرب إلى التجربة اليومية. لجان المقاومة، الروابط المهنية، المجموعات الشبابية، المبادرات الشعبية، وبعض دوائر الكفاءات العلمية، كل هذه التكوينات لم تكن تحمل خطاباً منظماً، لكنها كانت تمثل وعياً بسيطاً وعميقاً بأن الدولة ليست جهازاً سياسياً فحسب، بل إطاراً أخلاقياً يضمن الحد الأدنى من حياة مشتركة. هذه القوى، رغم ضعف مواردها وتشتت تنظيمها، حافظت على فكرة أن الوطن لا يمكن أن يكون مجرد ساحة لتصفية الحسابات أو ميداناً لتجريب المشاريع الصغيرة، بل هو عقد اجتماعي يتطلب قدراً من المساءلة والمسؤولية.
غير أن السؤال الأكثر تعقيداً يرتبط بالمؤسسات النظامية، لأنها تمثل العمود الفقري للدولة الحديثة. الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية يُفترض أن تكون قوى وطنية بطبيعتها، لأنها الحامية المباشرة لكيان الدولة. لكن التجربة السودانية أثبتت أن هذه المؤسسات يمكن أن تنزلق بسهولة إلى صراعات السياسة والجهة، وأن تتحول من أدوات لحفظ الدولة إلى أطراف في النزاع. وعندما يحدث ذلك، يتعرض مفهوم (القوى الوطنية) لضربة قاسية، لأن ما كان يفترض أن يكون ضمانة للاستقرار يصبح جزءاً من الفوضى.
ثم جاءت الحرب الأخيرة، فأجرت اختباراً قاسياً لكل الخطابات. انكشفت القوى السياسية، وظهرت حدود قدرتها على الفعل، وسقطت الكثير من اللافتات التي كانت تبدو راسخة. بعض الأطراف اتخذ موقف المتفرج، وبعضها اكتفى ببيانات إنشائية، وبعضها الآخر كان مشغولاً بحسابات من سيجلس غداً على الطاولة لا بوقف الحرب ولا بإنقاذ المدنيين. وفي تلك اللحظة بدا جلياً أن مفهوم (القوى الوطنية)، كما استخدمناه لعقود، كان مفهوماً هشاً، لا يمتلك بنية تنظيمية ولا رؤية مشتركة ولا قدرة على إدارة لحظة تاريخية بهذه الخطورة.
وفي وسط هذا الارتباك، ظهر سؤال لم يعد ممكناً تجاهله، أين القوى المدنية؟ وما هو تصورها للحل؟ فالقوى المسلحة مهما اختلفت تتحرك وفق منطق القوة، أما المدنيون فكان من المفترض أن يقدموا مشروعاً بديلاً يقوم على إعادة بناء الدولة لا على تقاسم النفوذ. غير أن القوى المدنية نفسها عانت من الانقسام، ومن غياب مشروع موحد يحدد كيفية إيقاف الحرب، وما الذي يجب أن يحدث بعد الهدنة، وكيف يتم إصلاح المؤسسات، وما هو الإطار الدستوري القابل للحياة. غياب هذه الرؤية جعل الفراغ يتمدد لصالح الأطراف المسلحة وحدها.
إزاء ذلك، يطرح الواقع السوداني سؤالاً أكثر جوهرية هل يمكن إعادة تعريف القوى الوطنية؟ وهل يمكن تجاوز هذا الإرث الثقيل من الشعارات الفضفاضة؟ ربما الإجابة ليست في بناء جبهة ضخمة تجمع كل الأطراف، بل في تكوين كتلة صغيرة متماسكة تمتلك وضوحاً في الرؤية واستعداداً لتحمل المسؤولية. فالوطني ليس من يرفع الشعار، بل من يدرك أن بناء الدولة يتطلب تضحية، وواقعية، وابتعاداً عن منطق الغنيمة السياسية. ومن يمثل الوطن اليوم ليس من يكرر الكلام القديم، بل من يستطيع أن يفهم حجم الخراب، وأن يقدم مساراً يعيد للدولة معناها.
وهكذا يتضح أن (القوى الوطنية السودانية) ليست حقيقة ثابتة بقدر ما هي مشروع لم يكتمل بعد. مشروع يُعاد تشكيله كلما تعرض السودان للاهتزاز العنيف، وكلما أدرك الناس أن بقاء الدولة يتطلب فهماً أعمق من مجرد رفع لافتات. فالوطنية ليست هوية جاهزة، بل ممارسة يومية، ومسؤولية تجاه المستقبل، واستعداد لأن يكون الإنسان جزءاً من الحل لا امتداداً للمشكلة.
وفي النهاية، فإن من يمثل الوطن حقاً هو من يضع مصلحة السودان فوق كل مصلحة، ومن يرى في الدولة مسؤولية لا غنيمة، وفي الناس شركاء لا أدوات، وفي المستقبل فرصة لإعادة التأسيس لا استمراراً لدوامة قديمة. والباقي، مهما ارتفعت أصواته، يظل جزءاً من الضجيج الذي رافق البلاد طويلاً دون أن يضيف إليها شيئاً.





