عندما يكذب القائد
منذ صدور العدد الأول من أفق جديد، وضعنا في إدارة التحرير قاعدة ثابتة: الافتتاحية يجب أن تكون جسراً لا حاجزاً، ونداءً للوحدة لا بياناً للفرقة، بلسمًا يعين على الالتئام لا مشرطاً يفتح الجراح. أردنا لها أن تكون صوت العقل في زمن الهياج، وأن تحمل همّ الوطن لا همّ الأجنحة، وأن تقود القارئ إلى أفق أرحب من الصراعات الصغيرة. غير أنّ اللحظة تفرض علينا أحياناً أن نغادر لغتنا المطمئنة إلى لغة المكاشفة، لا رغبة في الصدام، بل دفاعاً عن الحقيقة حين تُغتال، وعن الوعي حين يُزوّر. وللأسف، لم نجد مثالاً أبلغ على هذا من مقال الفريق عبد الفتاح البرهان المنشور في وول ستريت جورنال، والذي لا يمكن وصفه إلا بأنه محاولة سافرة لإعادة كتابة تاريخ قريب يعرفه السودانيون جيداً.
لقد كذب القائد.
نقولها بوضوح لا يحتمل التأويل، لأن ما ورد في مقاله ليس اختلافاً في القراءة أو تبايناً في التحليل، بل تزويراً فاضحاً للوقائع وامتناعاً متعمداً عن تحمّل المسؤولية. كذب البرهان حين ادعى أنه يمثل “الشرعية”، وهو أول من أطاح بها حين علّق الوثيقة الدستورية، وأنهى الشراكة الانتقالية، وفتح الباب واسعاً لانهيار مؤسسات الدولة. لقد كان البرهان بقراراته المتعجلة ومناوراته السياسية شريكاً رئيساً في دخول السودان إلى النفق الذي يبتلع اليوم مدنه وقراه.
كذب البرهان حين قدّم نفسه في مقاله بصفة رجل دولة حريص على الجيش ووحدة البلاد، بينما تاريخه في المؤسسة العسكرية يشهد على العكس. فقد كان من القيادات التي عملت داخل منظومة قوات حرس الحدود، تلك التي كانت إحدى أبرز أدوات النظام البائد في تشظية القوات المسلحة، واستنساخ مراكز قوى موازية. كما كان هو من ألغى المادة الخامسة من قانون قوات الدعم السريع، القرار الذي مكّن تلك القوة من استقلالية شبه كاملة، فتحولت مع الوقت إلى دولة داخل الدولة. وحتى اللحظة، لم يقدّم البرهان تفسيراً واحداً لسبب اتخاذه ذلك القرار، ولماذا منح قوات الدعم السريع ما لم يمنحه لأي مؤسسة نظامية أخرى، ثم يعود اليوم ليتحدث عن خطرها وكأن الأمر وقع من السماء لا من مكتبه.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك. كذب البرهان حين حاول أن يصوّر نفسه في مقاله كقائد تم جره إلى الحرب رغم إرادته، بينما يعلم العالم كله أن التوترات بين القوات المسلحة والدعم السريع لم تُعالج بالحكمة ولا بالتفاوض، بل تُركت لتتفاقم حتى لحظة الانفجار. وأي حديث عن تجنّب الحرب يصبح بلا معنى إذا جاء ممن امتنع لسنوات عن الإصلاح، وأدار صراع النفوذ داخل الدولة بدل بناء مؤسساتها، وسمح للميليشيات والولاءات الشخصية بأن تتغلغل في مفاصل السلطة.
ما يحاول البرهان فعله اليوم هو “الهروب إلى الأمام”. يريد أن يبرّئ نفسه بتجريم الآخرين، وأن يقدّم رواية منقوصة للمجتمع الدولي، تعفيه من تبعات الحرب وتقدّمه كقائد مضطر لا كصانع قرار. لكن هذه الرواية لا تصمد أمام حقائق الدماء التي سالت، والبيوت التي تهدمت، والأسر التي شُرّدت، والمؤسسات التي انهارت. فالسودان لم يصل إلى هذه المرحلة بسبب خطأ واحد أو موقف طارئ، بل بسبب تراكم قرارات خاطئة كان البرهان شريكاً مباشراً فيها.
إن ما يثير القلق في مقال البرهان ليس فقط ما تضمنه من مغالطات، بل ما يكشفه من ذهنية ترى أن بالإمكان خداع العالم كما كان يخدع المجتمعات المحلية. لكنه ينسى أن زمن الرأي الواحد انتهى، وأن السودانيين اليوم أكثر وعياً من أن تنطلي عليهم مثل هذه الروايات. لقد عاش الناس الأحداث ورأوا بأعينهم كيف تفككت الدولة، وكيف تحوّل الجيش إلى عدة جيوش، وكيف اتسعت رقعة النفوذ الفردي على حساب المؤسسية. لذلك فإن أي حديث عن “استعادة الدولة” لا معنى له إن لم يبدأ أولاً بالاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت، وليس بكتابة مقالات في الخارج لتسويق وهم البطولة الزائفة.
لسنا هنا لتصفية حسابات سياسية، فذلك ليس دور الصحافة ولا رسالتها. نحن هنا لنذكّر فقط أن الحقيقة ليست طرفاً في صراع، بل هي أساس بناء الوطن. ومن واجبنا أن نقول إن السودان لن يخرج من أزمته ما لم يعترف قادته – كل قادته – بمسؤولياتهم الكاملة، بلا استثناء ولا مناورة. الاعتراف ليس ضعفاً، بل بداية إصلاح. والصدق ليس ترفاً، بل شرط النجاة.
نقول… حين يكذب القائد، تُصاب البلاد كلها بالعمى المؤقت. لكن الشعوب لا تعيش في العمى إلى الأبد. ستعود الحقيقة لتسطع، مهما طال الليل، وسيعرف السودانيون جيداً من أطفأ الضوء، ومن حاول أن يقودهم إلى النور.
ختاماً… لا نكتب اليوم بحثاً عن بطولات صحفية، ولا سعياً للانتصار في سجال سياسي عقيم، بل لأن الحزن الذي يلفّ هذا الوطن أثقل من أن يُحتمل بالصمت. نكتب ونعلم أن الكلمات مهما اشتدت لا تضاهي وجع أم فقدت أبناءها، ولا حرقة أسرة شُردت، ولا انكسار مدينة كانت تضج بالحياة ثم صارت ركاماً. نكتب لأن الخراب لم يعد خبراً، بل صار هواءً يتنفسه السودانيون كل صباح، وصار الموت جاراً دائماً لا يغادر الأحياء.
اليوم، بينما يتبادل القادة الاتهامات، ويهرب كلٌّ منهم من مسؤولياته، يبقى الشعب وحده في مواجهة المصير. يبقى المدني الذي لا يحمل سلاحاً ولا يملك سوى صبره وقلبه، هو الضحية الأولى والأخيرة. وحين نرى البرهان يتحدث عن وطن يحاول “إنقاذه”، نتساءل: أي إنقاذ هذا، وقد غرق المركب بمن فيه؟ وكيف يمكن لمن أشعل الحريق أن يقدّم نفسه رجل الإطفاء؟
إن أكثر ما يوجع في المشهد كله أن السودان كان يمكن أن ينجو لو تحلّى قادته بالقليل من الشجاعة والصدق. لكنهم اختاروا أن يتركوا البلاد معلّقة في الهواء، بين حرب لا تتوقف، وسلطة تتنصل، ومستقبل يُسرق من بين أيدي الناس كل يوم.
سنظل نكتب… لأن الكذب إذا لم يُواجه، تحوّل إلى موت آخر. ولعل الكلمات تكون شاهداً على زمن خان فيه القادة دم شعبهم، ولم يبق للسودانيين سوى الحقيقة… والحسرة.