أسلحة كيميائية في السودان 

إعداد: كونتان بيشار/مراقبون

في يوم 22 أيار/مايو 2025، اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا قوات الدعم السريع. ولم تقدم واشنطن أي دليل يثبت هذه الاتهامات التي ينفيها الجيش السوداني. 

وللمرة الأولى، وثق فريق تحرير مراقبون فرانس24 حادثين وقعا في شهر أيلول/سبتمبر 2024 في شمال العاصمة الخرطوم، تدل كل المؤشرات على أنها تتعلق بقصف باستخدام الكلور، وهو غاز سام محظور في القانون الدولي.

تحقق فريق تحرير

 “مراقبون” من صور يشتبه أنها توثق هجمات كيميائية شنها الجيش السوداني. تم تصوير هذه الصور في أيلول/سبتمبر 2024 في مصفاة الجيلي، التي كانت تحت سيطرة ميليشيا قوات الدعم السريع في ذلك الوقت. 

تشير تحرياتنا لاستخدام الجيش غاز الكلور لاستعادة السيطرة على هذه البنية التحتية الحيوية للطاقة.

و”في يوم 24 نيسان/أبريل 2025، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية […] أن حكومة السودان استخدمت أسلحة كيميائية في سنة 2024″ بهذه الجملة بدأ بيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في 22 أيار/مايو 2025 أعلنت فيه فرض عقوبات اقتصادية ضد الحكومة السودانية التي يسيطر عليها الجيش. ولم يتم تقديم أية توضيحات تدعم هذا القرار. وفي اليوم التالي، نفت الحكومة السودانية هذه الاتهامات.

إعلان

منذ يوم 16 كانون الثاني/يناير الماضي، أكد مقال نشر في صحيفة نيو يورك تايمز الأمريكية نقلا عن مسؤولين أمريكيين، بأن مليشيا قوات الدعم السريع التي تخوض حربا أهلية ضد الجيش منذ يوم 15 نيسان/أبريل 2023 تعرضت لقصف باستخدام “أسلحة كيميائية يبدو أنها تتمثل في غاز الكلور”.

 وعلى إثر إعلان فرضت العقوبات الأمريكية على السودان، تحدثت عدة وسائل إعلام ناطقة بالعربية عن هذه الاتهامات. وتم تداول شائعات ومنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، لم يتم التحقق من صحتها، في السودان على استخدام أسلحة كيميائية في العاصمة الخرطوم بالخصوص، لكن لم يتم تقديم أي دليل على استخدام الجيش لغاز الكلور، أو أي سلاح كيميائي آخر، إلى حد تلك الفترة على الأقل.

باستخدام تقنيات التحقيق مفتوحة المصدر، قام فريق تحرير مراقبون، من مقره في باريس، بالتحقيق في حادثين وقعا خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024 بالقرب من مصفاة الجيلي للنفط التي تقع في شمال الخرطوم، عندما كان الجيش يحاول في تلك الفترة استعادتها من أيدي قوات الدعم السريع. وبعد أن تم التواصل معهم بشأن صور هذه الهجمات التي جمعها فريق تحرير مراقبون، أكد خمسة خبراء بأن هذه الصور تتطابق مع إلقاء من الجو لبراميل تحمل مادة الكلور. 

ووحده الجيش السوداني يمتلك طائرات عسكرية لازمة لتنفيذ هذا النوع من الغارات.

كما تقصى فريق تحرير مراقبون فرانس24 أيضا عن مصدر أحد برميلي مادة الكلور اللذين تم استخدامهما في هذه الهجمات. وقد تم توريدهما من الهند من قبل شركة مرتبطة بالجيش السوداني، وكان الهدف من بيع مادة الكلور، وفق البائع الهندي هو استخدامها “فقط في معالجة المياه الصالحة للشرب”. وبالفعل، فإن تطهير الماء باستخدام هذا الغاز هو أمر شائع، بالنظر إلى صفاته المعقمة. الكلور مادة مهمة للعمليات الإنسانية، إذ يستخدم لتعقيم المياه في السودان، وهو بلد دمرته الكوليرا منذ بداية الحرب الأهلية.

استخدام مادة الكلور لغايات عسكرية يضع السودان بين الأنظمة النادرة التي استخدمت هذا الغاز البدائي القاتل منذ الحرب العالمية الأولى التي تم فيها استخدام هذا الغاز على نطاق واسع.

إضافة إلى ذلك، يمثل الهجومان الموثقان خرقا للالتزامات الدولية للسودان في الاتفاقية الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية التي وقعت عليها الخرطوم في سنة 1999. كما أن استخدام “الغازات الخانقة” في ساحة المعارك يمثل أيضا جريمة حرب وفق معاهدة روما في سنة 1998.

إلى غاية نشر هذا المقال، لم يرد الجيش السوداني أو حكومة البلاد على طلباتها بإجراء حوار.

مصفاة الجيلي للنفط

 تعرضت لهجمات كيميائية من قبل الجيش وفق تأكيد قوات الدعم السريع

منذ إعلان فرض العقوبات الأمريكية، نشرت حسابات سودانية على وسائل التواصل الاجتماعي مؤيدة لقوات الدعم السريع صورا، تؤكد وفق وجهة نظرهم استخدام “أسلحة كيميائية” من قبل الجيش السوداني.

تؤكد بعض هذه المنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي بأن هذه الهجمات وقعت في “مصفاة الجيلي للنفط” “خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024”. وتقع هذه المنشأة المتخصصة في تكرير النفط على بعد نحو 60 كلم في شمال شرق العاصمة الخرطوم. 

وفي وقت السلم، تدير شركة “خرطوم ريفينري كومباني Khartoum Refinery Company (KRC” هذه المصفاة، الأكبر في السودان، والتي تعد حيوية لإمدادات الوقود في البلاد.

وتعرض العمل الطبيعي لمصفاة النفط هذه إلى اضطرابات خلال الحرب الأهلية: إذ سيطر عليها مقاتلو قوات الدعم السريع منذ الأسابيع الأولى لبدء النزاع في الوقت الذي أكدت فيه نقابة العاملين في قطاع النفط خلال شهر أيار مايو 2024 بأنها كانت خارج نطاق الخدمة منذ شهر تموز يوليو 2023. وبعد ذلك، تم استئناف العمل فيها منذ أن استعاد الجيش السوداني السيطرة عليها في يوم 25 كانون الثاني يناير 2025، وذلك على إثر عدة أشهر من المعارك الشرسة عليها ما تسبب في تعرضها لأضرار بالغة.

في يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024، في أوج المعارك من أجل السيطرة على مصفاة الجيلي للنفط، أصدرت قوات الدعم السريع بيانا اتهمت فيه الجيش السوداني باستهداف المنطقة من خلال “قصف جوي باستخدام طائرات حربية” وأضاف البيان أن الجيش استخدم “صواريخ من المشتبه بأنها كانت مجهزة بغازات سامة مما أدى إلى وقوع إصابات وحالات ضيق تنفس حاد بين العشرات من العاملين”.

وتم تداول مقاطع فيديو على حسابات مؤيدة لقوات الدعم السريع عبر وسائل التواصل الاجتماعي تظهر برميلين باللون الأصفر والأخضر تم العثور عليهما في محيط مصفاة النفط.

 فيما أظهرت صور نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في يوم 5 أيلول/سبتمبر 2024 برميلا على الرمل وكتب معها النص التالي “طيران الجيش السوداني ضرب المواطنين باستخدام أسلحة محرمة من القانون الدولي، وكانت محملة بغازات سامة وكيميائية”. 

وأظهرت مقاطع فيديو نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024 من جهتها برميلا مشابها ملقى تحت شجرة. كما أظهرت منشورات أخرى أيضا في نفس اليوم عاملين يحملون أجهزة أكسجين.

نشرت صور ملتقطة من مقاطع فديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي في يومي 5 و13 أيلول/سبتمبر 2024 تظهر البراميل الحديدية التي، وفق تأكيد الأشخاص الذين نشروا هذه الصور، تم استخدامها في تنفيذ هجمات كيميائية.

قام فريق تحرير مراقبون فرانس24 بإعداد تحقيق حول هذه الصور للتحقق من تأكيدات قوات الدعم السريع. 

وتمكن فريق التحرير من تحديد الإحداثيات الجغرافية لموقع هذين البرميلين، الأول كان موجودا في قاعدة عسكرية يسيطر عليها مقاتلو قوات الدعم السريع على بعد نحو 5 كلم من مصفاة النفط المذكورة آنفا، أما البرميل الثاني فكان موجودا في داخل مصفاة النفط في حد ذاتها.

وفي مقطع فيديو نشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي في يوم 23 أيار/مايو 2025 على إثر إعلان فرض العقوبات الأمريكية، نرى نفس البرميل المشار إليه سابقا لكن من زاوية أخرى. وكان رجل، يصور حفرة صغيرة في الأرض وقال:لقد أطلقوا علينا شيئا لا نعرف ما هو، يمكن أن يكون نوعا من الغاز المسيل للدموع، ويمكن أن يكون شيئا آخر، لقد أخرج هذا الشيء مادة صفراء اللون لا نعلم ما هي.

إضافة إلى ذلك، يوثق مقطع فيديو لحظة خروج هذا “الشيء الأصفر” من البرميل، ونرى من خلاله سحابة بنفس هذا اللون وقد تم التقاطه في نفس منطقة تصوير المشهد السابق. 

وعلى الرغم من أن النسخة الوحيدة الموجودة لهذا التسجيل، إلا أنه ما من شك أنه تم تصويره قبل تصوير مشاهد البراميل.

في هذا المقطع المصور الذي نشر من داخل قاعدة قري العسكرية التي تبعد نحو 5 كلم من مصفاة الجيلي للنفط، يمكن لنا أن نرى سحابة صفراء فاقع لونها تنتشر في الهواء.

تم تصوير كل مقاطع الفيديو الثلاثة هذه داخل قاعدة قري العسكرية التي تقع على بعد نحو 5 كلم إلى الشرق من مصفاة الجيلي للنفط.

 تمكن فريق تحرير مراقبون فرانس24 من العثور أيضا على صور لم تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي للهجوم الذي تم باستخدام هذا البرميل والتي تظهر نفس المشهد من زوايا مختلفة.

 برميل معد لاحتواء غاز الكلور

في الوقت الذي يقول فيه الأشخاص الذي قاموا بتصوير البرميل بأنه أخرج نوعا “من الغاز المسيل للدموع”، فإن هذا البرميل كان يحتوي على مادة أكثر خطورة بكثير: ويتعلق الأمر بمادة الكلور. “ما نراه هنا، من الواضح أنه أسطوانة معدة لنقل مادة الكلور” وفق ما قاله لفريق التحرير دان كازيتا، وهو متخصص في شؤون الدفاع ضد الأسلحة الكيميائية الذي يضيف قائلا: “هذا النوع من الحاويات يستخدم في كل مكان في العالم لمعالجة الماء الصالح للشرب.

 

ولا تعد مادة الكلور سلاحا كيميائيا مثل البقية: إنه غاز، وعندما ينتشر في الهواء، فإن يتسبب بسرعة في اختناق الأشخاص الموجودين بالقرب منه ومن الممكن أن يتسبب في الوفاة، ويتم استخدامه على نطاق واسع في الأنشطة الصناعية. “إنه ما يطلق عليه الاستخدام المزدوج: الطريقة التي نستخدمه بها هي ما تجعله سلاحا” وفق تصريح ماتيو غيدوتي عالم الكيمياء والمتخصص في الأسلحة الكيميائية.

أما فريدريك كوغي، الخبير في الشؤون الباليتسية والأستاذ في الكلية الملكية العسكرية في بلجيكا، فيؤكد بأن هذه الصور التي التقطت في داخل قاعدة قري العسكرية تظهر بالفعل برميلا صناعيا يحتوى على مادة الكلور.

من خلال مقاطع الفيديو، يمكن لنا أن نرصد أيضا لوحة معدنية دائرية الشكل نرى فيها رقما متسلسلا، والذي يمكن لنا أن نعيد تشكيله من خلال الاستعانة بعدة صور ملتقطة من الشاشة. 

من خلال عملية إعادة تشكيل الرقم التسلسلي التي قام بها فريق تحرير مراقبون، تمكنا من العثور على الرقم التسلسلي على هذا البرميل وهو: “GC-1983-1715”. الرقم الأخير، الذي بالكاد يمكن لنا أن نقرأه، هو الرقم خمسة الذي مُسح جزؤه العلوي.

تمكن فريق مراقبون فرانس24 من تقفي مصدر هذا البرميل ذي الرقم  التسلسلي “GC-1983-1715″، وقد تم إرساله إلى السودان من قبل مصدر هندي وهي شركة “شيمتريد إنترناشونال كوربورايشن Chemtrade International Corporation.

تؤكد هذه الشركة أن البرميل تم اختباره آخر مرة في 20 أيار/مايو 2024، وهو التاريخ الموجود على اللوحة المعدنية.

وفي الوثيقة المرتبطة بهذه الطلبية التي تمكن فريق تحرير مراقبون من الحصول عليها، كان هذا البرميل ضمن شحنة من 17 أسطوانة مليئة بمادة الكلور السائل، تم نقلها عبر باخرة “بومباي” في يوم 14 تموز/يوليو 2024، لتسليمها إلى بورت سودان.

تشير رسالة بريد إلكتروني تلقتها Chemtrade إلى أن الشحنة تم تسليمها إلى بورتسودان في 17 آب/أغسطس 2024.

 

وفي الشركة الهندية، فإن الطرف المستورد في السودان أكد بأن البراميل الـ17 من مادة الكلور سيتم استخدامها “حصرا لغايات تتعلق بمعالجة المياه الصالحة للشرب” في السودان.

السحابة الصفراء، مؤشر “يؤكد على الأرجح أنه مرتبط بتسرب مادة الكلور”

أظهر مقطع مصور تم نشره من قبل حساب على وسائل التواصل الاجتماعي ينشر دعاية مساندة لقوات الدعم السريع ،سحابة صفراء كثيفة تنتشر في قاعدة قري العسكرية.

من جانبهم، أكد ثلاثة خبراء في المجال تواصل معهم فريق تحرير مراقبون فرانس24 بأن هذه السحابة تتطابق مع تسرب مادة الكلور. إذ يقول الخبير ماتيو غيدوتي: “لونها شبه متطابق مع ما رأيناه في العقبة في الأردن”. إذ في يوم 27 حزيران/يونيو 2022، أدى سقوط حاوية لمادة الكلور على باخرة شحن إلى تسرب كثيف لهذا الغاز في ميناء العقبة البحري. وأدى الحادث إلى وفاة ما لا يقل عن 14 شخصا وإصابة 256 آخرين بجروح.

“لون سحابة الدخان تتطابق مع تلك التي نشاهدها في حالة استخدام غاز الكلور، مع لون أصفر يميل للأخضر” وفق ما قاله لفريق تحرير مراقبون إن إر ينزن جونز، مدير “أرممنت ريسرش سيرفيسز إيه إر إي إس Armament Research Services (ARES)”، والذي يضيف “السحابة تبقى أيضا قريبة من الأرض وهو ما يشكل نفس خصائص غاز أكثر ثقلا من الهواء، على غرار غاز الكلور”.

تمكن فريق تحرير مراقبون فرانس24 من التواصل مع مهندس سابق كان موجودا في داخل مصفاة الجيلي للنفط في يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024، مثله مثل عدد كبير من العمال. وحفاظا على سلامته الشخصية، قرر فريق التحرير عدم كشف اسمه. وأرسل لنا هذا المهندس، الذي بات اليوم لاجئا في الخارج، صورا تثبت أنه كان يعمل في مصفاة الجيلي للنفط، بالإضافة إلى صورة ملتقطة من الشاشة تثبته أنه عاين الحادث عن قرب في صباح يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024، وفي اتصاله الهاتفي معنا، روى قائلا:كان الوقت باكرا، في حدود الساعة 8 صباحا. كنت في غرفتي الصغيرة التي منحوها لنا لنقيم فيها. سمعت صوت قدوم طائرة، وكان هناك ضجيج هائل. كما لو أن شيئا كان بصدد السقوط. توجهت أنا و صديقان آخران إلى الخارج، ورأيت دخانا كثيفا. من حسن الحظ أنني لم أكن قريبا من المنطقة. بعد مرور 30 دقيقة، ذهب مع أصدقائي لرؤية مكان سقوط هذه المقذوفات. تعرض الأشخاص الذين كانوا قريبين من ذلك المكان للإغماء، أو واجهوا صعوبات في التنفس وكانوا يعطسون. قمنا بمساعدتهم، مع أشخاص من الحراسة، وقمنا بنقلهم إلى مصحة مصفاة النفط الصغيرة.

تتطابق شهادة هذا المهندس مع الصور والروايات التي قدمها أصحاب مقاطع فيديو تظهر تداعيات هذا الحادث.

كما يزعم هذا الرجل أيضا أن عددا كبيرا من الأشخاص قتلوا على إثر هذا الحادث، لكن لا شيء يؤكد ذلك إلى حد الآن.

لم يتمكن فريق تحرير مراقبون فرانس24 من التحقق من هذا الادعاء من مصدر مستقل ولم يتوفر أي معطى متحقق منه يدعم ذلك. 

كما يبدو المتخصص في الأسلحة الكيميائية دان كازيلا أيضا متحفظا بخصوص هذه التأكيدات، وبخصوص العلامات الظاهرة في مقاطع الفيديو التي تظهر العمال في مصفاة الجيلي للنفط وهم يرتدون أقنعة أكسجين، ويقول موضحا:

علامات التعرض لغاز الكلور واسعة نسبيا، إذ توجد القليل من الأمور التي تُمَكِّن من التعرف إليها بشكل واضح. في الواقع، من الصعب جدا أن يُقتل شخصا بسبب هذا الغاز عندما يتم إلقاءه في الهواء الطلق بهذه الطريقة. يتم استخدامه بالأساس كشيء مهيج بشدة، لدفع العدو إلى الخروج من مخابئه وهو ما يجعل أكثر انكشافا للغارات العادية. وبهذه الطريقة بالذات تم استخدامه في سوريا: فخلال الهجمات باستخدام الكلور، في مدينة دوما، سقط عدد كبير من القتلى، ولكن ذلك كان بسبب سقوط البرميل في أعلى بناية ما تسبب في اختناق الأشخاص الذين كانوا بداخلها.

“حالة البراميل تتطابق مع إلقاء جوي” نفذه الجيش

تطابقت رواية الإلقاء الجوي للبراميل مع مقاطع فيديو حول هذا الحادث، أشار عدة أشخاص تحدثوا فيها إلى “قصف من الطائرات”.كما يعتبر إن إي ينزن جونز بدوره أن هذا السيناريو منطقي ويقول موضحا: يمكن أن يتم استخدام طائرة مروحية أو طائرة لنقل مادة الكلور الموجودة في برميل صناعي. عموما، براميل الكلور ثابتة وصلبة، وهو ما يجعل من السهل نقلها وإلقاءها من مؤخرة طائرة طويلة بما يكفي. عادة ما يكون الاصطدام مع الأرض كافيا لفتح غطاء البراميل تحت ضغط ما تحتويه من غاز الكلور. الصعوبة في هذا النوع من الإلقاء الجوي تجعل من الصعب جدا استهداف هدف عسكري محدد.

كما تؤكد معطيات بصرية أيضا بأن براميل الغاز التي عثر عليها في قاعدة قري العسكرية في يوم 5 أيلول/سبتمبر 2024 وفي داخل قاعدة مصفاة الجيلي للنفط في يوم 13 أيلول/سبتمبر من نفس السنة أنه تم إلقاؤها من طائرة. 

وعرض فريق تحرير مراقبون فرانس24 هذه الصور على فريدريك كوغي الخبير في الشؤون الباليستية والأستاذ في الكلية العسكرية الملكية في بلجيكا، الذي علق عليها قائلا:كل الحاويات تعرضت لتغيير في شكلها وأضرار كبيرة بعد إلقائها من ارتفاع كبير. تظهر كشوطات جانبية كبيرة على حاوية على الأقل، ما يشير إلى سرعة أفقية كبيرة في لحظة الاصطدام بالأرض. وللحصول على هذا الشكل من التشوهات، من المفترض أنه تم إلقاء هذه الحاويات من على متن طائرة شحن أو طائرة مروحية أطلقتها بسرعة عالية. وعملية اصطناع هذه التشوهات تبدو غير ممكنة.

تم تأكيد هذا التحليل من قبل تريفور بال، وهو تقني سابق في الجيش الأمريكي مكلف بتحييد المتفجرات والذخائر، ويدير اليوم حسابا على منصة إكس متخصصا في التحقيق عبر المصادر المفتوحة.

بعد أن شاهد الصور التي تم التقاطها في داخل مصفاة الجيلي للنفط وفي قاعدة قري العسكرية، يضيف تريفور بول قائلا:

حالة هذه البراميل تتطابق مع الأضرار التي نتوقعها على إثر عملية إلقاء من الجو، أي أن شكلها تغير لكنها بقيت سليمة إلى حد ما (…) في حالة البراميل التي تحتوي على مواد كيميائية تم إلقاؤها من طائرة، يمكن أن يكون حجم الحفرة التي تحدثها محدودا حسب ارتفاع الإلقاء وطبيعة الأرض أو ما إذا كانت البراميل قد سقطت على شيء آخر على الأرض، كشجرة على سبيل المثال.

وفق المعلومات المتاحة إلى غاية كتابة هذا المقال، فإن الجيش السوداني هو القوة المسلحة الوحيدة في السودان التي تملك معدات جوية كافية لتنفيذ إلقاء براميل الكلور هذه التي تزن، وفق جذاذتها الفنية (ملفها الفني)، أكثر من طن عند تعبئتها. أما قوات الدعم السريع فلا تملك سوى طائرات مسيّرة لا تستطيع حمل شحنة تزن أكثر من 130 كلغ.

طائرات الشحن التي استُهدفت مؤخرا من قبل الجيش في مطار نيالا، في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في دارفور، كانت تُستخدم فقط لنقل القوات والمعدات العسكرية. ولم يتم توثيق أي غارة جوية باستخدام طائرات أو مروحيات، ولا أي استخدام قتالي لطائرات من هذا النوع من قبل القوات المسلحة السودانية.

“انفجار أي حاوية تحمل غاز الكلور سيقتلهم ببطئ وفي صمت”

في يوم 14 أيلول/سبتمبر 2024، أي غداة الحادث الذي سقط فيه برميل الكلور في داخل مصفاة الجيلي للنفط، أكدت وسيلة إعلام مساندة للجيش السوداني بأن “الطيران العسكري هاجم تجمعات المليشياويين في الحي السكني للمهندسين والتقنيين الذين يعملون في مصفاة الجيلي للنفط”. من جهته، أشار حساب إخباري على تطبيق تيلغرام يدعم القوات المسلحة في السودان ويملك أكثرة من 300 ألف متابع أيضا إلى الغارات بالطائرات على مصفاة الجيلي للنفط في مساء يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024. وكان نفس هذا الحساب قد أعلن في وقت سابق وقوع ضربات جوية على مصفاة النفط نفسها مساء يوم 4 أيلول/سبتمبر 2024، أي قبل بضع ساعات فقط من الحادث الذي وقع في قاعدة قري العسكرية.

حادثان يتطابقان مع هجمات تم خلالهما استخدام الكلور، وفق تأكيد خمسة خبراء

توصل تحقيقنا إلى أن حاويات الكلور الصناعي أُلقيت من الجو في مناسبتين على الأقل بالقرب من مصفاة الجيلي، في 5 و13 أيلول/سبتمبر 2024. في ذلك الوقت، كانت المصفاة مسرحا لاشتباكات عنيفة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني.

اتفق الخبراء الخمسة  في الأسلحة الكيميائية والشؤون الباليستية الذين تواصل معهم فريق تحرير مراقبون فرانس24 على أن هذه الصور المتاحة عن الحوادث التي وقعت في يوم 5 أيلول/سبتمبر 2024 في قاعدة قري العسكرية وفي يوم 13 أيلول/سبتمبر من نفس السنة في مصفاة الجيلي للنفط تتطابق مع هجمات باستخدام غاز الكلور. وذكر كل هؤلاء الخبراء في المقابل أن هذه العناصر لا تمثل دلائل نهائية وبأن مثل هذه الهجمات من المستحيل تأكيدها بشكل قاطع دون الولوج الفوري إلى الأرض، وهو ما يقوله ماتيو غيدوتي:

 في هذه الحالة، فإن الدلائل تبدو مقنعة على الأرجح وتشير إلى حدوث هجمات باستخدام غاز الكلور” وفق تقدير إن إر ينزن جونز، مدير “أرممنت ريسرس: سيرفيسز Armament research services” الذي يضيف قائلا: إعادة استخدام هذه المواد الكيميائية الصناعية السامة لغايات عسكرية هو تصرف تم رصده منذ عدة عقود. في سوريا بالخصوص، تم تنفيذ سلسلة هجمات باستخدام مادة الكلور المعبأة في براميل اصطناعية وتم إلقاؤها من الجو. ومع الأسف، ليس من المفاجئ أن يتم استخدام هذا الأسلوب في مكان آخر.

“لا يوجد دليل على حدوث تلوث كيميائي أو إشعاعي في ولاية الخرطوم” وفق الحكومة السودانية

وتواصل فريق تحرير مراقبون فرانس24 مع الجيش والحكومة السودانية للحصول على روايتها بشأن الأحداث. وإلى غاية نشر هذا المقال، حاولنا التواصل مع المكلف بالسياسة الخارجية في السودان. وكان هدفنا من ذلك معرفة ما إذا كانت العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان في 22 أيار/مايو الماضي قد اعتمدت على الحوادث التي وقعت في 3 و15 أيلول/سبتمبر العام الماضي في مصفاة الجيلي للنفط. ورفض المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السودانية الإجابة عن هذه النقاط قائلا أنه “طبقا للتصرفات المعتادة، لا نقوم بالرد على تقارير مزعمة صادرة عن أجهزة المخابرات، ولا نتواصل بشأن معلومات داخلية “في هذه الإدارة”.

بعد الإعلان عن فرض العقوبات الأمريكية في يوم 22 أيار/مايو 2025، كانت الحكومة السودانية التي يسيطر عليها الجيش قد أعلنت تشكيل لجنة مكلفة بالتحقيق في الاتهامات باستخدام أسلحة كيميائية. ولا يبدو أن ما استخلصته هذه اللجنة قد صدر للعموم إلى حد هذه اللحظة. في المقابل، أعلنت وزارة الصحة السودانية في تقرير نشر في بداية شهر أيلول/سبتمبر الماضي أنه لا يوجد “أي دليل على تلوث كيميائي أو إشعاعي في ولاية الخرطوم” حيث توجد مصفاة الجيلي للنفط.

“إذا ما تأكد استخدام هذه الأسلحة الكيميائية، فإن المسؤولية الجزائية لفاعلية وأصحاب القرار يمكن أن تبدأ ضدهم خصوصا في محكمة الجزاء الدولية إذا ما قرر مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة” وفق ما أوضحته جوليا غرينيون المتخصصة في القانون الدولي والمديرة العلمية لمعهد البحوث العلمية في المدرسة العسكرية في فرنسا. وتضيف غرينيون قائلة “انطبق هذا الأمر في السابق على الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير على سبيل الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من قبل محكمة الجزاء الدولية خلال سنة 2009، على سبيل المثال” إلا أن السودان لا يعترف بسلطة محكمة الجزاء الدولية، ولم يتم جلب عمر البشير للمحاكمة أبدا وبقي رهن الاعتقال في بلده.

لكن كيف وصلت البراميل من مادة الكلور الصناعي إلى السودان لكي تستخدم كأسلحة كيميائية؟ للإجابة عن هذا السؤال، حاول فريق تحرير مراقبون فرانس24 تقفي مسار هذه المواد. ويظهر تحقيق أنه تم شراؤها من قبل شركة مقربة من الجيش السوداني تتولى شراء مواد مصنعة من قبل شركات متخصصة في إنتاج العتاد الحربي والأسلحة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى