مأمون هباني .. الدولة تحاكم عجزها

أفق جديد

في صباحٍ متعب من صباحات الدويم، كانت المحكمة تبدو كأنها مبنية على جرحٍ قديم لا يريد أن يندمل،الجدران تقشر جلدها بصمت، والساحة من أمامها يغمرها غبارٌ خفيف يعلو كلما مرّت سيارة عسكرية. في الممر الضيق المؤدي إلى القاعة، وقف شيخٌ في الثمانين، منحني الظهر، متكئاً على عصاه كأنها آخر ما تبقى له من الدنيا، ذلك هو الناظر مأمون إدريس هباني؛ رجلٌ حمل لسنوات طويلة مسؤولية قبيلته، فإذا به اليوم يقف في  قفص الاتهام بينما الذين غزو قريته في ذلكم الصباح يعاملون كما الابطال.

دخوله القاعة كان أشبه بمرور الزمن نفسه، خطواته بطيئة لكن ثابتة، وملامحه صلبةٌ رغم الوهن، في الصفوف الخلفية جلس من جلس، حابساً أنفاسه، كأن العالم كله معلّق على ما ستنطق به المحكمة بعد دقائق. كان الجو مشبعاً بما يشبه الرطوبة الثقيلة: رطوبة الخوف، رطوبة عدم اليقين، رطوبة الشعور بأن العدالة اليوم ليست هنا، وأن الحقيقة لا تنتظر في هذه الجدران.

العزلة الأولى

تبدأ مأساة الرجل من يومٍ بعيد لن ينساه أهله: اليوم الذي اجتاحت فيه قوات الدعم السريع منطقة أم رمته. كان الجميع يهربون، يحملون أطفالهم وذكرياتهم لكن الشيخ لم يهرب. لم يعرف يوماً كيف يترك الناس ويغادر. وقف في وسط فوضى السلاح وهو يظن — بشهامة النبلاء — أن كِبر سنّه سيحميه، وأن صفته كناظر قبيلة ستجنبه سؤ المصير. لكنه خُلِع من مكانه كما تُنتزع شجرة من جذورها، اختُطف، ضُرب، أُهين، وسُجِن في معتقلات لا تريد الشمس أن تدخلها.

في أيامه تلك، كان الشيخ مكبّلاً، تتساقط صحته كما تسقط أوراق شجيرات الحراز في موسم الأمطار، كانت الميليشيا تفاوض أهله على حياته كما لو كانت تبيع وتشتري في رغيف خبز. حتى دفعوا — مرغمين — ثلاثين مليار جنيه ليعيدوه حيّاً، عاد مريضاً، معطوباً، لا يقوى على حمل صوته

غياب الدولة

لم تسأل الدولة حينها أين كان الشيخ، ولا كيف عاش أيامه، ولا كيف دفع أهله مالاً يعجز عن جمعه تجار المدينة. لم تأتِ سيارة حكومية تسأله عن ألمه، لم يُفتح بلاغ ضد خاطفيه، لم تتحرك نيابة أو وحدة مختصة، كانت السلطة غائبة — أو متغافلة — حين كان الرجل بحاجة إليها.

وهنا انغرست كلمات رئيس حزب الامة مبارك الفاضل مثل سهم في هذا الصمت حين كتب مستنكراً: «كيف يُترَك شيخٌ مختطَف لأسابيع ولا تسأل الدولة عن مصيره؟ وأي دولة هذه التي تُسلم أهلها للميليشيات وتعود لاحقاً لتُحاكمهم؟». كانت تلك الكلمات أشبه بصفعة: السودان لم يحمِ كبار أهله، ولا صغارهم، ولا أي أحد وجد نفسه في طريق ميليشيا أقوى من الدولة نفسها.

العزلة الثانية

حين عاد الجيش إلى المنطقة بعد شهور، لم يأتِ بالطمأنينة ولا بجبر الضرر. جاء بالشكوك، وبالبلاغات، وبقوائم طويلة من “المشتبه بهم”. وهناك، في تلك القوائم التي ضمّت كل من بقي في منطقته وقت الاجتياح، سقط اسم الناظر، وكأنّ من لم يهرب صار متهماً، ومن دفع فدية ليُنقَذ صار متعاوناً، ومن عاش قسوة الأسر صار مداناً لأنه لم يمت.

في لحظة واحدة، وجد الرجل نفسه داخل جدران سجن الدويم، محمولاً من جديد إلى عزلة أخرى، عزلة الدولة بعد عزلة الميليشيا، هكذا كتب المحامي بشارة إبراهيم، بحرقة من يعرف أن العدالة هنا ليست سوى قشرة رقيقة تغطي حفرة من الظلم. قال إن القبيلة صمتت، وإن البعض تراجع، وإن الشيخ تُرك وحيداً كما يُترك الغريق في منتصف النهر، كان نقده لاذعاً لأن الحقيقة كانت كذلك: مأمون هباني لم يجد من يقف معه بالشكل الذي يليق بمكانته.

فوق مقصلة القانون

مع اقتراب يوم المحكمة، انفتح الباب الواسع أمام احتمال كان يجب أن يكون مستحيلاً: حكم إعدام على رجل تجاوز الثمانين. القانون السوداني يقول بوضوح — كما ذكّر رئيس الحركة الشعبية التيار الثوري  ياسر عرمان — إن من بلغ هذا السن لا يُحكم عليه بهذه العقوبة. قال عرمان في مقاله: «لا يجوز بحكم القانون أو بحكم الإنسانية أن يُقاد رجل في مثل سن الناظر مأمون إلى حبل المشنقة. الحكم عليه إعداماً هو إعدامٌ للعدالة نفسها». لكن القانون في السودان الجديد صار مثل خيط رفيع، يُشد حين يريد أصحاب السلطة ويُرخي حين يشاؤون.

في ذلك اليوم، لم يكن الدفاع قادراً على استدعاء كل شهوده، ولم يُستمع لملابسات الخطف، ولا إلى آثار التعذيب، ولا إلى واقعة دفع الفدية، ولا إلى تقارير الأطباء. بدا وكأن الأهم ليس الحقيقة، بل تثبيت رواية جاهزة. رواية تصنع من الضحية متهماً، ومن الشيخ خائناً، ومن عجز الدولة “دليلاً” ضده.

مرآة الوطن

لم تعد قضية مأمون هباني مجرد ملف قضائي، تحولت إلى مرآة لبلاد تتآكل من أطرافها

بلادٌ تهرب الدولة فيها عندما يدخل السلاح، ثم تعود لتُعاقب من لم يستطع الهرب

بلادٌ ترعى الميليشيات قبل المواطنين، وتخشى قوتها أكثر مما تخشى الله

بلادٌ تحاكم كبارها وهي تسامح قتلةً معروفين يتحركون بلا خوف

بلادٌ تتجاهل شيوخها، رموزها، سدنتها، وتستسلم لصوت التهديد أكثر من صوت العدالة.

في هذه القضية، يظهر السودان كما وصفه كُتّاب كُثر: دولة فقدت إتزانها، وصارت ترفع يدها على من تستطيع الوصول إليه، لا على من يستحق العقاب، قضية الشيخ هي صورة مجسدة لانهيار الخط الفاصل بين العدل والبطش، بين القانون والانتقام.

الصوت الأخير

حين وقف الشيخ في المحكمة، لم يكن واقفاً وحده. كان معه كل الذين فقدوا دولة تفككت، كل الذين حوصِروا بين ميليشيا بلا قلب وسلطة بلا رحمة، كل الذين أعادوا أبناءهم من المخيمات، أو دفعوا ما يملكون من أجل إطلاق سراح قريب، أو وقفوا يتابعون أحكاماً لا تشبه القانون إلا بالاسم.

لم يصرخ الشيخ، لم يطلب الرحمة، لم يحتج، بدا كأنما حياته كلها اختُزلت في تلك اللحظة، وكأنه يريد أن يقول: “لقد عشتُ عمراً أطول من ظلمكم، وأعرف أنكم عابرون.”

وطنٌ في هيئة شيخ

في النهاية، لا يمكن قراءة قضية الناظر مأمون بمعزل عن لحظة السودان الراهنة. بلدٌ تمزقه الحرب وتنهكه الصراعات ويتحرك فيه الناس من محكمة إلى مقبرة إلى معسكر نزوح. وحين تُحكم يد الدولة على رجل كهذا، فإن الرسالة ليست إليه بل إلينا جميعاً: أن هذا الوطن صار يحاكم نفسه، ويعاقب شيوخه، ويضرب رموزه، وينسى تاريخه.

الناظر مأمون، الشيخ الذي أرهقه الخطف والسجن، لا يمثل نفسه، بل يمثل وطناً مشدوداً إلى مقصلة لا يعرف كيف ينزل عنها

وطناً لم يعد يفرّق بين أعدائه وأهله، بين من خذله ومن بقي واقفاً في وجه الريح

محكمة الضمير

الحكم على الشيخ ليس حُكماً على رجل مسن، بل على ضمير أمة

فإن كان كبارها يُقادون إلى مرارات كتلك دون حماية ولا إنصاف، فكيف يكون حال صغارها؟

وإن كانت الدولة عاجزة عن الدفاع عن مواطنٍ مسالم، ثم قوية عليه حين يضعف، فماذا تبقّى من معنى الدولة؟

وإن كان هذا الوطن يعاقب ضحاياه بدل أن يجبر كسرهم، فإلى أي هاوية يمضي؟

إن مأمون إدريس هباني ليس فرداً في ميزان العدالة، بل رمزٌ لوطن واهن، يقف على حافة محكمة كبيرة اسمها السودان، ينتظر حكماً أخيراً تقول فيه الدولة ما إذا كانت لا تزال دولة، أم أنها — مثل الشيخ —

أُنهِكت من الخطف والخذلان… وصارت تنتظر من يعيد لها روحها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى