من أين أتى هؤلاء؟

منبر جدة شاهد على زيف الإخوان المسيطرين على قرار ما تبقى من الدولة المختبئين وراء الواجهة العسكرية!

بقلم : إبراهيم هباني

(من أين أتى هؤلاء؟)،  سؤال الأديب السوداني الراحل الطيب صالح الذي أصبح اليوم توصيفاً دقيقاً لواقع تدار فيه الدولة بالكذب باسم الحرب.

اندلعت الحرب في السودان يوم 15 أبريل 2023. وبعد أقل من ثلاثة أسابيع فقط، وفي 6 مايو، ولد منبر جدة.

 وبعدها بخمسة أيام، في 11 مايو، وقع إعلان الالتزام بحماية المدنيين. أي أن حماية المدنيين لم تكن فكرة متأخرة، ولا ترفاً سياسياً بعد الخراب، بل طرحت في الأسبوع الرابع من الحرب، عندما كان إنقاذ الناس ممكناً فعلياً، لا مجرد شعار يستدعى بعد أن تصير المدن أطلالاً.

لكن الذي ولد مع الإعلان ثم أخفي سريعاً لم يكن النص، بل الكذب عليه. خرجت آلة الدعوة للحرب بكامل عدتها: هذا (تفريط)، ذاك (استسلام)، وتلك (مؤامرة دولية). 

كأن حماية المدنيين بدعة مستوردة، وكأن المستشفيات أهداف طبيعية، وكأن الإغاثة خصم عسكري ينبغي حصاره.

ثم مضت الأيام لا لتختبر النص، بل لتختبر الضمير. فكان القصف، وكان الحصار، وكان منع الغذاء والدواء. 

وكل بند كتب في جدة جرى تمزيقه عملياً فوق الخرطوم والجزيرة ودارفور. لم يفشل النص(…) الذي فشل هو من قرروا أن الحرب أولاً، ثم يأتي الناس لاحقاً في الهامش أو في قوائم الضحايا.

اليوم، بعد أكثر من عامين وسبعة أشهر من القتل والنزوح وانهيار المدن، يعود الخطاب نفسه إلينا بوجه جديد، ويعاد تسويق (حماية المدنيين)  باعتبارها موقفاً مستجداً. الأعجب أن من يلوح اليوم بالنص هو نفسه من حاربه بالأمس

 تغير العنوان، وبقي الأسلوب:

بالأمس كان الشعار (الحسم العسكري)، واليوم صار (حماية المدنيين).

وبين الشعارين، لا شيء تغير سوى عدد القبور.

في قلب هذا المشهد يقف قائد قوات الشعب المسلحة الفريق البرهان محاطاً بخطابين لا يلتقيان: 

 خطاب يقال للوسطاء في الغرف المغلقة، و خطاب آخر يلقى على المنصات الداخلية.

 قبول هناك (…) ومزايدة هنا. ورقة للخارج، وأخرى للاستهلاك المحلي. حتى الحقيقة صارت تدار بنسختين.

أما جوهر التعطيل، فلم يكن خلافا في التقدير العسكري، بل تمظهرا مباشرا لسيطرة شبكات مرتبطة بـالإخوان المسلمون على مفاصل القرار داخل ما تبقى من الدولة. فمنذ الأشهر الأولى للحرب، جرى التغلغل في وزارات خدمية، وفي الإعلام الرسمي، وبعض دوائر التأثير الاقتصادي والأمني، تحت عناوين (إدارة الضرورة)، بينما الواقع كان إعادة تمكين صامتة عبر بوابة الحرب.

وبالتوازي، شغلت آلة حرب إعلامية منظمة لتخوين أي مسار تفاوضي، وشيطنة أي مبادرة إنسانية، وتقديس (الحسم العسكري) بوصفه الخيار الوحيد.

 ومع كل اقتراب من تنفيذ إلتزامات إنسانية،  كفتح الممرات أو حماية المستشفيات أو تسهيل الإغاثة ،  كانت تطلق فوراً حملات تخوين منظمة، تدار بلغة سيادية عالية، لكنها تخدم عملياً تعطيل أي إلتزام يهدد إقتصاد الحرب ويحد من نفوذ شبكات المصالح.

على إمتداد الحرب، لم تكن المشكلة في نقص المبادرات. فقد طرحت عشر مبادرات إقليمية ودولية انتهى معظمها إلى مسار واحد: 

وقف النار، الترتيبات الإنسانية، ثم عملية سياسية. الذي تعطل لم يكن النصوص، بل قرار الإلتزام بها.

للشعب السوداني المنكوب، لا تحتاج الحقيقة إلى خطابة:

لم تخذلوا لأن النصوص غائبة، بل لأن من تحكموا في قرار الدولة عطلوها عمدا.

وللمجتمع الدولي، الرسالة أوضح من كل بيانات الوساطة:

ما يقدّم اليوم باعتباره (تحولا)، ليس إلا إعادة تدوير متأخرة لنص قتل يوم ولد.

ويعود سؤال الطيب صالح، لا كدهشة أدبية، بل كمحاكمة سياسية وأخلاقية مفتوحة:

 من أين أتى هؤلاء؟

من أين أتوا بمنطق يرى حماية المدنيين خيانة في مايو 2023، ثم يراها (موقفاً سياديا)بعد عامين وسبعة أشهر من الدم؟

ومن الذي بدل الأوصاف… ومن الذي دفع الثمن؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى