صوت السلام يعلو على خطاب الحرب 

بقلم : وئام كمال الدين 

تشهد الساحة السودانية أزمة حادة في الخطاب السياسي والإعلامي، تفاقمت منذ حرب 15 أبريل 2023. وتعكس هذه الأزمة عمق الصراعات بين القوى المختلفة، كما تؤثر سلبًا على الوحدة الوطنية والاستقرار في البلاد. برزت الأزمة بوضوح مع تصاعد الخطاب التحريضي والاستقطابي، إذ استخدمت الأطراف المتنازعة ــ الجيش وقوات الدعم السريع ــ خطابًا يعزز الانقسامات القبلية والجهوية، وتبادل الطرفان الإتهامات بالتمرد والإنقلاب، مما غذّى التصعيد العسكري والتوترات الإجتماعية.

تزامنت مع ما شهدته وسائل الإعلام، خصوصًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، حملات تضليلية مكثفة لنشر معلومات مضللة وتشويه صورة الخصوم. وتعدّت الأزمة إلى إغلاق السلطات لأكثر من 47 مؤسسة إعلامية منذ بداية الحرب، ما قلل من مصادر المعلومات الموثوقة. ما فاقم الكارثة الخطابية في ظل الحرب وغياب رؤية وطنية موحدة، وضعت النخب السياسية أمام تحديات في توحيد المواطنين حول مشروع جامع، بينما تعززت خطابات التخوين والعمالة، وتراجعت قدرة الإعلام السياسي المدني على معالجة القضايا الجذرية مثل توزيع السلطة والعدالة والهوية الوطنية، في ظل تأثير الحرب المباشر على حرية الإعلام.

صاحب كل ذلك تعرض المنشآت الإعلامية والصحفيون للاستهداف، مما أدى إلى تراجع التغطية المهنية والموضوعية. كما استخدمت الأطراف المتحاربة الإعلام كسلاح للتعبئة والتحشيد، بل ولتعريض حياة المواطنين للخطر عبر دعوات العودة لمناطق غير آمنة عسكريًا وصحيًا وبيئيًا. ما عدا ذلك يجعل القوى المدنية تعاني من ضعف في خطابها مقابل الخطاب العسكري المسيطر، فيما تؤدي الحرب إلى تعميق الانقسامات القبلية والجهوية، وزيادة العنف المجتمعي، وتفشي خطاب الكراهية. كما تعمل الحكومات العسكرية على إضعاف العملية السياسية وعرقلة التحول الديمقراطي، مستخدمة تدهور الأوضاع المعيشية والنزوح وانعدام الأمن الغذائي والصحي، واحتياج نحو 30 مليون شخص لمساعدات إنسانية، كأداة ضغط لتجريم الدعوات لوقف الحرب.

أما المثير للحيرة فهو تضاربات الخطاب الرسمي، خصوصًا الصادرة عن رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان. وفي أمثلة لاستعراض أبرز مظاهر أزمة الخطاب السياسي الذي يبدأ من توصيف الحرب نفسه: وصف البرهان الحرب تارة بأنها “تمرد وحشي” من قوات الدعم السريع ضد الدولة. وفي خطابات أخرى قال إنها “صراع بين قوتين”، مما يعكس تذبذبًا في توصيف طبيعة النزاع. وفي خطاب آخر أنها حرب ضد عدوان خارجي على البلاد، وهذه أمثلة إذ ثمة توصيفات أخرى، فالرجل لا يعرف الحرب في خطاب حتى يغير تعريفها كلما غير موقفه من وقف إطلاق النار. فما لبث أعلن البرهان مرات عدة استعداد الجيش لوقف إطلاق النار بشرط خروج قوات الدعم السريع من الخرطوم وفك الحصار عن الفاشر، حتى عاد ونفى الرغبة في إيقاف الحرب قبل “نهاية آخر جنجويدي”. تارة مع السلام وتارة مع الحرب، وكل ذلك في محاولات الإرضاء لخلفائه الداخليين والخارجيين وكسب الزمن ومحاولة التقدم العسكري، وخوفًا أيضًا من ردود فعل مؤيديه من دعاة الحرب. في مقاله بـ”وول ستريت جورنال” وصف الدعم السريع بأنها “ميليشيا مدعومة خارجيًا” ودعا الولايات المتحدة لدعم الجيش. بينما اتهم في خطابات داخلية دولًا مثل الإمارات بدعم الدعم السريع، ثم عاد وأبدى استعدادًا للتعاون مع المجتمع الدولي، المجتمع الدولي نفسه الذي طلبته الاتهامات في خطابات أخرى، وطال التخوين كل من يتعامل معه لأجل إحلال السلام واستعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي.

وفي الوقت الذي يؤكد البرهان فيه على أن الديمقراطية هي الخيار الوحيد، ويدعو القوى السياسية للانتظار حتى الانتخابات، لا يحدد موعدًا واضحًا لعملية سياسية أو رؤية، بل يتجاهل الأمر كلما وضع على الطاولة بندًا لنقاش آليات الانتقال، مما يثير مخاوف من استمرار الحكم العسكري. أما الموقف من الإسلاميين (فأين هم؟؟)، تجاهل البرهان دور الإسلاميين في بعض الخطابات، وفي أخرى دعا إلى “المصالحة” مع قوى عادت إلى “الصف الوطني”، مما يعكس محاولات استقطاب متناقضة، والخطابات كثيرة تعارض نفسها وتفقد صاحبها حجته.

وتضع خطابات قادة حكومته في تضارب دائم، إذ تعدّ تصريحات بعض قيادات حكومة البرهان، مثل الفريق ياسر العطا، مثالًا آخر لحالة التخبط. فقد أدلى العطا بتصريحات متناقضة حول دعم الحرب أو الدعوة للسلام، وتراجع مرارًا عن مواقف أعلنها سابقًا. كما ظهرت تصريحات متضاربة بشأن اتفاق جدة، رغم استخدام شعار “لا جدة ولا جداد” في السابق والإصرار على جدة الآن دون مراجعة المواقف السابقة. ويتعدى هذا التضارب القادة العسكريين ليطال حكومة الأمر الواقع كلها، فهناك مقاطع مصورة لوزير خارجية حكومة البرهان وهو يتجنب ذكر “الديمقراطية” في خطاب رسمي، ويعتذر عن قراءة ورقة مكتوبة بحجة أنها “ليست الورقة الصحيحة”، في خطوة فسّرها بعض المراقبين بأنها رفض لذكر بنود لا ترضي الحلفاء الإسلاميين.

الأزمة ليست أزمة تمويل ولا أدوات هي  أزمة مصداقية  أدت ــ بجانب الاتهامات المتبادلة حول استخدام أسلحة محظورة ــ إلى إضعاف  الخطاب العسكري، وفتحت المجال لارتفاع صوت السلام بعد نحو ثلاثة أعوام من اندلاع الحرب، رغم حملات التشويه ضد دعاة السلام. ورغم استخدام حكومات الحرب موارد ضخمة لتثبيت خطابها الإعلامي، إلا أنها تواجه نتائج مواقفها غير الثابتة، التي تكشف الأسباب الحقيقية وراء السعي لاستمرار الحرب كلما انهارت حججها “الوطنية”.

والفرصة المتاحة للمدنيين: على الرغم من عمق الأزمة، لا تزال هناك فرصة حقيقية لتوحيد الجهود المدنية الداعية لوقف الحرب، خاصة مع ظهور مقترحات خطيرة مثل “الانفصال الإداري” كحل مطروح من بعض الأطراف، وهو حل يمهد للانقسام ويمثل تهديدًا للوحدة الوطنية. فالآن هو وقت: الوحدة والتكاتف، توحيد الجهود لوقف الحرب، العمل من أجل السلام، حماية ما تبقى من الوطن، واستعادة روح ثورة ديسمبر المجيدة، ونحن على مشارف ذكراها. كما أنه وقت توحيد الخطاب السياسي والإعلامي للمدنيين من أجل دعم مسار السلام.

الحقيقة أن رغم جودة أدوات الحرب الإعلامية، ورغم الجهد المدفوع والمبذول لتعزيز خطاب الحرب، إلا أن هشاشته وتضاربات خطابه الناتجة عن ضعف الموقف نفسه وعدم استناده إلى الحقيقة وبناءه على الباطل، تجعل هذا الخطاب ينهار تدريجيًا مهما اجتهد مؤيدوه. فالحقيقة أن هذه الحرب وصمة عار، وأن استمرارها يمزق البلاد اجتماعيًا ويسعى إلى تمزيقها حدوديًا، وأن الإنسانية والوطنية والقومية تستوجب السلام، وأن دعاة السلام لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى