” يارحمن” إستغاثة شعب انهكته الحرب


أفق جديد
أطلقت اليوم الاثنين الاول من ديسمبر المطربة نانسي عجاج عملاً فنياً غاية في الابداع أغنية “يا رحمن” تأتي في لحظةٍ يختنق فيها الوطن بالدخان والدم، فتبدو كنافذة روحية تُفتح وسط جدار الحرب السميك. الأغنية ليست مجرد مجاراة لمدحة حاج الماحي الشهيرة، بل هي استدعاء واعٍ لجوهر المديح الصوفي بوصفه صوت الضمير الشعبي حين تضلّ الطرق وتختلط الأصوات وتتعثر البصيرة. لقد كان حاج الماحي في زمانه يداوي الروح بالإنشاد، وها هي الأغنية تعيد هذا الدور في زمنٍ لم يعد فيه من دواء غير الرجاء.
النص الذي صاغه قاسم أبوزيد يحمل مسحة تراثية واضحة، لكنه يضمر خطاباً نقدياً لاذعاً تجاه الحرب وصانعيها. فالدعاء هنا ليس مجرد تضرع، بل استغاثة شعبٍ أنهكته آلة الاقتتال؛ دعوة للخلاص من البلاء، وتلميح شفيف—لكنه قوي—إلى أن الخراب الذي عمّ البلاد لم ينزل من السماء، بل أشعله بشرٌ ما زالوا يتنصلون من مسؤوليته. كل كلمة تحمل ثنائية الروح والواقع: رجاءٌ من الله، وعتابٌ لمن أشعل ناراً لا يطفئها إلا الغفران أو العدالة.
أما أداء نانسي عجاج فكان جسراً بين عالمين: عالم المديح الصوفي بطمأنينته القديمة، وعالم البلاد المضطرب اليوم. صوتها يخرج كأنه نداء لوقف السيف، لا لاستدرار الدمع. هي لا تغني حرباً ولا سلاماً، لكنها تغني الإرادة العميقة لبلدٍ يريد أن ينهض من ركامه، وكأنها تقول: لا خلاص من هذا الجحيم إلا بالعودة إلى القيم التي صاغها وجدان السودانيين منذ أزمان—قيم الرحمة والمروءة والعدل.
وهكذا تصبح “يا رحمن” عملاً فنياً ينتصب في وجه الحرب كنوع من المحاكمة الأخلاقية. فهي لا تكتفي بإحياء مدحة قديمة، بل تعيد توظيفها كسلاحٍ معنوي ضد جنون النار، وكوثيقة إدانة رمزية لأولئك الذين أشعلوا الفتنة ثم تركوا الشعب يحترق في لهيبها.
إنها أغنية تُذكّر بأن السودان، مهما اشتدت محنته، ما يزال قادراً على أن يرفع صوته بالدعاء… لا هرباً من الحرب، بل احتجاجاً عليها، ومطالبة بخلاصٍ طال انتظاره.





