ضبابية الأُفُق السياسي وتمدد رقعة المَآسِي!

حسام حامد
في السودان، لم يعُد الخبر العاجل استثناءً، بل صار هو القاعدة؛ فحتى الآن، تتواصل فصول واحدة من أعقد وأقسى الحروب الأهلية في تاريخ البلاد الحديث، حرب أنهكت الدولة، ومزّقت المجتمع، ودفعت الملايين إلى حافة الجوع والنزوح واليأس، في وقتٍ يبدو فيه الأفق السياسي أكثر ضبابية من أي وقت مضى.
كردفان في قلب النار
بعد أن استنزفت المعارك العاصمة الخرطوم وأقاليم دارفور، تحوّل ثقل العمليات العسكرية خلال الأسابيع الأخيرة إلى إقليم كردفان، الذي بات مسرحاً لمواجهات ضارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؛ ولايات شمال وجنوب كردفان تشهد اشتباكات شبه يومية، تتداخل فيها المعارك البريّة مع الضربات الجويّة، في مشهد يعكس انتقال الحرب إلى مرحلة أكثر شراسة وأقل ضبطاً.
وفي السياق، قوات الدعم السريع أعلنت سيطرتها على مناطق استراتيجية مثل بابنوسا وبرنو، ما يمنحها نفوذاً على خطوط إمداد مهمة، في حين يعتمد الجيش بشكل متزايد على سلاح الجو لقلب موازين القوة، غير أن هذا الخيار العسكري جاء بكلفة إنسانية باهظة، إذّ سقط عشرات المدنيين جراء قصف جوي ومدفعي طال مدناً مثل الدلنج وكادوقلي، مع تقارير متكررة عن إصابة أحياء سكنية مكتظة بالسكان، كما أنّ الحصار المفروض على مدينة الأُبيِّض جعل المواطن يعيش حالة من القلق والنزوح الصامت.
الطائرات المسيّرة.. سلاح الرعب
إزاء ذلك؛ فاللافت في تطورات الحرب الأخيرة هو التصاعد الحاد في استخدام الطائرات المسيّرة، التي تحولت من أداة عسكرية محدودة إلى وسيلة ترهيب واسعة التأثير، تقارير الأمم المتحدة وثّقت مقتل أكثر من 104 مدنيين، بينهم 43 طفلاً، في هجمات بطائرات مسيّرة منذ الرابع من ديسمبر وحده، غالبيتهم في مناطق كردفان.
ولم تقتصر الخسائر على المدنيين السودانيين، إذّ قُتل ستة من جنود حفظ السلام البنغلاديشيين في قصف استهدف قاعدة تابعة للأمم المتحدة في كادوقلي في الثالث عشر من ديسمبر، في حادثة خطيرة أعادت إلى الواجهة هشاشة الوجود الدولي في مناطق النزاع، وعجزه عن حماية حتى قواته المنتشرة على الأرض.
الظلام يعود إلى المدن
امتدت آثار الحرب إلى البنية التحتية الحيوية، حيث أدى قصف بالطائرات المسيّرة على محطات كهرباء في عطبرة والنيل الأزرق إلى انقطاع واسع للتيار الكهربائي عن مدن رئيسية، من بينها الخرطوم وبورتسودان، هذا الانقطاع لم يكُن مجرد أزمة خدمات، بل ضربة إضافية لحياة ملايين المواطنين، إذّ تعطلت المستشفيات، وتوقفت محطات المياه، وازدادت معاناة الأسر التي تعيش أصلاً تحت ضغط اقتصادي خانق.
قرارات أمنية وتشديد الخناق
في محاولة لتجفيف مصادر تمويل وإمداد قوات الدعم السريع، أصدر والي الخرطوم قراراً بحظر نقل السلع والبضائع عبر الحدود الغربية للولاية، مع فرض عقوبات صارمة تصل إلى السجن لمدّة خمس سنوات، ورغم الطابع الأمني للقرار، إلاَّ أنّ مراقبين حذروا من انعكاساته السلبية على المدنيين، خصوصاً في ظل اعتماد الأسواق المحلية على حركة التجارة البينية، ما ينذر بارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة المعيشة.
حراك دبلوماسي بلا اختراق
وفي السياق وعلى الصعيد الخارجي، تتكثف التصريحات واللقاءات، لكنها حتى الآن لم تُترجم إلى وقف فعلي للنار؛ الولايات المتحدة دعت إلى وقف إطلاق نار فوري، ووصفت القتال بأنه “مروع”، محذرة من أن المتورطين في الانتهاكات لن يفلتوا من الإدانة الدائمة، غير أن هذه التحذيرات، على أهميتها السياسية، لم تغيّر من واقع الميدان شيئاً.
في المقابل، أجرى القائد الأعلى للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان لقاءات إقليمية مهمة، شملت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ هذه اللقاءات حملت رسائل دعم وتحذير في آن واحد، إذ شددت القاهرة على وجود “خطوط حمراء” مرتبطة بأمنها القومي، في إشارة إلى مخاوف من اتساع رقعة الفوضى على حدودها الجنوبية.
أما الأمم المتحدة، فقد أعربت عن قلق بالغ إزاء الانتهاكات المستمرة، محذرة من كارثة إنسانية جديدة إذا امتد القتال إلى مدن كبرى مثل الأُبيِّض، التي تمثل شرياناً اقتصادياً وإنسانياً بالغ الأهمية.
أكبر مأساة إنسانية في العالم
وسط كل ذلك، تظل الكارثة الإنسانية هي العنوان الأبرز للمشهد السوداني؛ أكثر من 21 مليون شخص، أي نحو نصف سكان البلاد، يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، أرقام النزوح صادمة، أكثر من 9.5 مليون نازح داخلياً، وإجمالي النازحين واللاجئين يتجاوز 14 مليون إنسان، موزعين بين الداخل ودول الجوار.
إلى ذلك وللعام الثالث على التوالي، تُصنف الأزمة السودانية كـ”أسوأ أزمة إنسانية في العالم”، في توصيف لم يعُد يحمل صدمة بقدر ما يعكس اعتياد المجتمع الدولي على المأساة، ومع استمرار التقارير عن مجازر سابقة في دارفور، ومخاطر مجاعة وشيكة في عدّة مناطق، يبدو أن الزمن يعمل ضد السودانيين بلا رحمة.
إلى أين يمضي السودان؟
المشهد السوداني بات محكوماً بتوازن هش بين التصعيد العسكري والعجز السياسي؛ لا مؤشرات حقيقية على قرب الحسم العسكري، ولا بوادر جدية لعملية سياسية جامعة توقف النزيف، ومع اتساع رقعة القتال، تتزايد المخاوف من تدخلات إقليمية ودولية مباشرة، قد تجعل من السودان ساحة صراع مفتوح تتقاطع فيها المصالح والنفوذ.
في النهاية، يبقى السؤال معلقاً، كم من الدم والدمار يحتاج السودان قبل أن يدرك المتحاربون أن لا منتصر في هذه الحرب؟ وحتى يأتي الجواب، يستمر السودانيون في دفع الثمن الأغلى، بين قذيفة تسقط، ومدينة تُظلم، وطفل ينام جائعاً في وطن كان يوماً ما يُعرف بسلة غذاء أفريقيا.





