وطن في الغناء..أو إنصاف فتحي
وطن في الغناء..أو إنصاف فتحي
السر السيد
أكتب عن المبدعة إنصاف فتحي من موقع التذوق وليس النقد الاحترافي مع اعتقادي أن التذوق لا يمكن له أن يتبدى دونما رافعة نقدية ما أيًا كانت درجتها من حيث الاحترافية، إذ أن النقد في الأخير هو ما يمنحنا حيازة التذوق ولو بدرجة ما مما يعني ضمنيًا إننا جميعًا نتوفر على درجة ما من النقد.
في تجربة المبدعة إنصاف فتحي، المولودة مطلع تسعينيات القرن الماضي والمتخصصة في الهندسة، نلمس حضورًا ناعمًا للوطن ولكنه عميق. والوطن الذى يحضر في تجربتها ليس هو الوطن بمفهومه (السياسي) المباشر الذي ينهض في الغالب على أخيلة الفئات الفاعلة في عملية التغيير وتصورها الأيدولوجي لصورة الوطن المنشود.
في تجربة المبدعة إنصاف فتحي يتبدى الوطن ناطقًا بكل ما تتأسس منه كينونته بحسبانها معطى واقعيًا وليس متخيلًا وما يزححها – كينونته – من هذا المعطى الواقعي هو إعادة خلقها عبر فن الغناء، لذلك كان عنواني الذي اجترحته لمقاربة تجربتها هو: (وطن في الغناء أو إنصاف فتحي).
تستند هذه المقاربة العامة على أغنياتها المبثوثة في وسائط التواصل الاجتماعي ولأنها من الكثرة بمكان لا تدعي المقاربة الإحاطة بها.
إنصاف فتحي التي أبحرت أو تكاد في مختلف موجات الغناء السوداني الشجية المتنوعة، تتوفر على طاقة عظيمة من الشجن والحضور الخلاق تعتصر فيهما روحها المشتعلة وجسمها النحيل، وقد منحاها أجنحة تحلّق بها في سماوات ألحان الحقيبة سهلها وحَزنها كأغنية (الصبا النجدي)، وسماوات ألحان عثمان حسين ووردي وإبراهيم عوض وسيد خليفة وثنائي العاصمة وصالح الضي وزيدان وغيرهم من أساطين ما يعرف بالغناء الحديث، ولا أنسى هنا الفنانة “منى الخير” في أغنيتها البديعة (آه يا حمام يا زاجل).. هنا ومن هذه السماوات تنخرط إنصاف فتحي مع أبناء وبنات جيلها من المغنين والمغنيات في ما أسميه “جبهة المقاومة”، تلك الجبهة التى كان في مقدمة طلائعها الفنان محمود عبدالعزيز والمتمثلة في إعادة بناء الذاكرة الغنائية السودانية التي بُعثرت وقطع سريانها في السنوات الأولى لنظام الإنقاذ، بمنعه بث عشرات الأغنيات، وإيقاف تسجيل (الأغاني العاطفية)!؟ بدعاوى (فقهية) و(أخلاقية).
أدرجتُ هذا الفعل المبدع؛ إعادة بناء الذاكرة الغنائية ضمن جبهة المقاومة، بسبب أن المقاومة – أي مقاومة – لا تتموضع إلا وللذاكرة حضور كما في الكثير من أدبيات المقاومة.
من تلك السماوات المنيرة ومن روح المقاومة الناعمة حطّت إنصاف فتحي على كتفي مشروعها الغنائي الخاص فقدمت عددًا مقدرًا من الأغنيات المتنوعة على مستوى الألحان والمضامين تبدّى من خلالها الوطن ناعمًا، ومن أغنياتها هذه نذكر وعلى سبيل المثال: (شديرة المحلبية، وأسمراني، والمريود، ووليدكو دا، والبلح نوٌر للشاعر سليمان عطية)، وأغنيات (ناري أنا وآ ناري، والرايق، وزولي الوحيد) للشاعرة نضال حسن الحاج، وأغنيات (لورى الصعيد) للشاعرة فرحة عبدالرسول و(خدار القلب) للشاعرة مثاني حسن الحاج، و(الزهي) للشاعرة آسيا الخليفة، و(يا هلا) للشاعر بشرى عبدالله، و(زغرودة) للشاعر أزهري محمد علي، والأغنية النوبية (آيروم أيقا) للشاعر والملحن متوكل عوض، وبلغة البداويت أغنية (فارساب) مع الفنان محمد البدري.
من كل هذه الأغنيات وغيرها يتسرب الوطن ناعمًا كالماء وشامخًا كالجبال ولكن ليس على تلك الأساليب اللحنية والشعرية التي تخلقت منها صورة الوطن خلال فترات النهوض والمقاومة السياسية وإن كانت لا تتجاوزها بالمطلق بل تزحزحها قليلًا وبالدقة (تجاورها)، فإذا كانت تلك الأغنيات تنهض في معظمها على مخيلة (سياسية مباشرة)، تتماهى مع المخيلة التي أنتجتها علاقات (السودان القديم)، برهانها الجمالي الأساس على السلطة كأداة حاسمة في إعادة بناء الوطن/ الحلم، فإن أغنياتها في معظمها تراهن على الشعب وتمتح من تنوعه العظيم ومجازات حيواته اليومية، ففي أغيناتها ثمة حضور بديع مقصود لآلات الموسيقية الشعبية كالربابة والنوبة والطار والدلوكة، وتعمّد فصيح لحضور الرقص في دلالة على استعادة عنصر اساس في غناء الشعوب السودانية، غيّبته سلطة الغناء المهيمن، الذي وطنته بعض أنماط الثقافة المهيمنة.
يتبدى كذلك حضور عضوي لما يعرف بالكورس فمعظم أغانيها التي وقفت عليها يتقاسمها معها الكورس وهو ملمح أساسي في غناء الشعوب السودانية أيضًا، إذ لا وجود يذكر فيه للمغني الفرد، تكتمل هذه الهندسة للأغنية أو للدقة إعادة هندستها بأخيلة الشعر الذي تغنت به والتي تتوفر عليها عامية السودانيين العربية المتنوعة في جهاتهم المختلفة، ولغاتهم غير العربية، وهنا نقف على مفردات تغوص في الحياة اليومية المناضلة قلّ أن تجدها في الغناء السائد كمفردات “ورتاب”، و”نان”، و”لفح”، و”كُرْ” وغيرها، أما ما لا يمكن غض الطرف عنه في تجربتها فهو ذلك السطوع (النسوي)، ليس فقط بسبب وجود هذه الكوكبة من الشاعرات: (نضال الحاج، آسيا خليفة، فرحة عبدالرسول، مثاني الحاج)، وإنما أيضًا بسبب طرائق التعبير والقاموس والأخيلة.
يحضر الوطن ناعمًا وشامخًا في تجربتها عبر اللغة وحزمة الألحان والإيقاعات والأدائيات، وعبر زحزحة لطيفة للمخيلة السياسية المباشرة التي وسمت الغناء للوطن لزمن طويل.
فى أغانيها يسافر البص أو اللوري لافحًا الحبيبة/الحبيب أو مهاجرًا للحبيب/الحبيبة عابرًا جغرافيا السودان الفسيحة، من الصعيد للسافل ومن السافل للصعيد تحتضنه بمحنة وسلام الصحارى والجبال والسهول والوديان على نور القمر وضوء النجوم وسطوع الشمس ومغيبها وأصوات القماري وهديل الحمام، ورذاذ المطر وحكايات عامة الناس وأحلامهم.. كل هذا يتفجر كالنبع من صوتها الشجي وأدائها العبقري.
إنصاف فتحي.. أقول لك: “هيجتينا.. يا قميرى كَرْ”.
السر السيد، إنصاف فتحي، الغناء السودان، شاعرات سودانيات